الفصل الثاني الجهاد الإعلامي وتحديات العصر
أولا: الإعلام عن الإسلام (الأصول والقواعد والأهداف) :
يأتي الإعلام عن الإسلام في مقدمة القضايا التي أثارت جدلا كثيرا ونقاشا حادا في الأوساط العلمية والثقافية والسياسية، وذلك في الثلث الأخير من القرن العشرين.
ولعل من أهم أسباب هـذا الجدل والنقاش الذي أثير بهذا الصدد، هـو درجة حساسية هـذا الموضوع، وارتباطه بكثير من ظواهر الحياة.
وفي ضوء كل هـذا، فإننا في حاجة إلى وقفة علمية متأنية، بعيدا عن التوجهات الفكرية المتحمسة والرافضة، لنفكر بهدوء وروية حول حقيقة هـذا الموضوع ودلالاته.
وإذا كنا جادين في خدمة رسالة الحق، علما وعملا، حريصين على تفعيل دورها في مختلف المجالات ولجميع الفئات، فإنه لابد من الاتفاق على منهاج علمي واضح الرؤية، محدد الملامح للنشاط الإعلامي، تلتزم به أجهزة إعلامنا، يغنينا عن المناهج الوضعية والشرائع المستوردة، ويحقق لنا السيادة على سمائنا وأرضنا. [ ص: 57 ]
ولا أستطيع أن أنكر الصعوبات التي يتعرض لها هـؤلاء الذين يخوضون في هـذين المجالين: مجال الدين، ومجال الإعلام، نظرا للحساسية المفرطة التي تكتنف جهودهم وبحوثهم، فمن يتعرض للقضايا الدينية لا يكاد يسلم من الانتقادات والاتهامات، كما أن الخوض في النشاط الإعلامي -بكل تداعياته العصرية وتأثيراته السلبية- كثيرا ما يعرض صاحبه إلى كثير من الاعتراضات والهجمات.
إلا أن القرآن الكريم يحسم هـذا الجدل، مؤكدا أن الإعلام بدعوة الإسلام ليس من نافلة القول، كما أنه ليس نشاطا ترفيا، ولكنه واجب ومسؤولية، وهو القطب الأعظم في الدين، والمهمة التي بعث الله بها نبي هـذه الأمة وخاتم الرسل، ولولاها لذهب مقصود الرسالة، وضاع هـدف البعثة، وفشا الفساد، وعم الضلال، ومنع الهدى والخير [1] وتؤكد الشواهد العملية والحقائق العلمية أن الإعلام وفنونه وأنماطه وقوالبه، يعد واحدا من أهم أدوات نشر الرسالة والإقناع بها، فهو بمثابة الجسور التي تعبر منها الرسالة إلى الناس.
والإعلام الدعوي هـو إعلام من الله ولله، يستخدم كافة الوسائل والتقنيات والمعطيات العصرية، ويوظف كل قوالب وفنون التحرير والإخراج والدراما والحوار...إلخ.. يلتزم بالثوابت ويجتهد في [ ص: 58 ] المتغيرات.. وهو إعلام ملتزم لا يلعن ولا يطعن ولا يتهم الآخرين بالباطل، ولا يجهر بالسوء والفحشاء أو بالغيبة والنميمة.. يتوجه لكل الناس في كل زمان، وفي كل مكان.. فلسفته متميزة، ثوابته واضحة، أهدافه محددة، قوانينه مستمـدة من القرآن والسنة،
شعـاره: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ) (النساء:148)
والإعلام الدعوي متميز بأهدافه وتوجهاته ومنطلقاته وشرائعه، والقوانين التي تحكم عمله، إنه ليس مجرد صفحات دينية أو برامج إذاعية معزولة ومحدودة في وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة والمرئية، ولكنه جهود مخططة تستهدف الإبلاغ بالحقيقة وتنقية الرسالة الإعلامية من كل الشوائب والملوثات، ليكون ذا منبت حسن، وأهداف نبيلة.. إنه إعلام الكلمة الطيبة، الذي يسهم في بناء الإنسان وفق المنهج الإسلامي، ويخلصه من العبودية لغير الله في البرامج والمعالجات كافة، بدءا من فقرات الترفيه والترويح، وانتهاء بإعلام الأزمات والشدائد.
وهذا كله يتطلب المبادرة إلى إنشاء مؤسسات إسلامية قوية للإنتاج والتوزيع في مختلف المجالات، كما أنه يتطلب كفاءات بشرية قادرة، وإمكانات مادية كافية، وخطط علمية جادة. [ ص: 59 ]
إن الصياغة الإسلامية للنشاط الإعلامي -نظريا وتطبيقيا- ليست مشروعا سهلا، بل هـي مشروع عملاق يمثل صورة من صور التحدي الحضاري الشامل الذي يواجه الأمة في حاضرها ومستقبلها.
والذي يقرأ القرآن بتدبر، يقف حتما عند الآيات الكثيرة التي تحدثت عن البلاغ والإنذار والتبشير والإخبار، ويكفي أن نعلم أن الآيات التي اشتملت على كلمة: (أعلم ) و (علم ) وما يشتق منها، تجاوزت السبعمائة آية، وقد تكررت بقية الكلمات مرات عديدة، ومن هـذه الآيات على سبيل المثال:
( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) (الأعراف:62) .
( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) (الجـن:28) .
( هـذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هـو إله واحد ) (إبراهيم:52) .
والقرآن الكريم هـو الرسالة الإعلامية المقدسة، معجزة الإسلام الخالدة، وهو الدستور الشامل الجامع المنظم لشئون المسلمين في الأمور كلها، ومن ثم فهو المرجع الرئيس للنشاط الإعلامي، ينظم للدعاة خططهم، ويحدد مجالات نشاطهم، ويحقق أهدافهم، ويستطيع القائم بالاتصال أن ينهل منه ليدعم الحقيقة، ويستعين به في معالجة قضايا المجتمع المعاصرة.
والباحث المدقق سيجد أن الله ما بعث رسوله إلا لإبلاغ العالم برسالة الإسلام، وقد حمل أمانة الدعوة بكل تجرد وإخلاص، من خلال [ ص: 60 ] منهج إعلامي متميز أبرزته دوائر المعارف العالمية، واعترف به المستشرقون المنصفون.. منهج يجب أن نقف عنده لنستخلص منه النتائج والعبر، ونتعرف من خلاله على الأساليب التي حقق بها هـذا الإنجاز، وهو المنهج الذي حدده الحق في قوله عز من قائل: ( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) (يوسف:108) .
الحقيقة أن الجهود الإعلامية التي أنجزها رسول الإسلام تؤكد الدور الكبير الذي اضطلع به الإعلام في هـذا الصدد، وهي جهود استلفتت انتباه الخبراء والباحثين، فقد نهج في دعوته نهجا خاصا، ووضع لهذه الدعوة أصولا ومعايير تحتاجها جهود العلماء والباحثين، وقد حدد الله له ركائز هـذا المنهج في كلمات دقيقة واضحة لا تحتمل لبسا أو غموضا في العديد من الآيات الكريمة، منها قوله عز وجل في سورة الأحزاب: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) (الأحزاب:45-46) ،
وقوله في سورة المائدة: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) (المائدة:67) .
وتوضح هـذه الآيات أن مهمة الرسول تتركز في البلاغ، ثم هـو بعد ذلك غير مكلف بهداية الناس، فهذه الأمور من شئون الخالق سبحانه وتعالى: ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) (الرعد:40) . [ ص: 61 ]
بل إن الرسول قد مارس الإعلام الدولي وحقق من خلاله نتائج مثمرة، حتى قبل أن يفتح الله عليه أم القرى وينتهي من هـداية قومه في الداخل، ويتمثل ذلك في هـؤلاء الرجال الذين تعلموا في مدرسة النبوة، وقام بإيفادهم إلى ملوك العالم وحكامه، وكان ذلك في السنة السادسة للهجرة بعد عودته من صلح الحديبية، فأرسل إلى إمبراطور الروم، وإمبراطور الفرس، وحاكم مصر، وإلى النجاشي وغيرهم، وقد أحصى المؤرخون أكثر من ثلاثمائة رسالة بعثها الرسول، وحملتها رسله إلى هـؤلاء الملوك والأمرء والحكام، سواء خارج الجزيرة العربية أو داخلها.
وقد نهج صلوات الله وسلامه عليه نهجا خاصا في خطابه الإعلامي، فكان يخاطب كل فئة بحسب دينها وفكرها ومكانتها في المجتمع، فالمشركون غير أهل الكتاب، والكفار غير العصاة، والحكام غير المحكومين، والمؤمنون غير المنافقين، ولكنه كان يلتزم دوما بلين القول، ووضوح المقصد، وسلاسة العبارة، وقوة المنطق، ونفاذ المعنى، فكان صادقا حين قال عن نفسه: ( أوتيت جوامع الكلم، أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش ) [2] وليس رسول الله وحده هـو المكلف بالدعوة لدين الله، ولكنها واجب على الجميع، ومعنى ذلك أنه من اللوازم الضرورية لإيمان المسلم أن يدعو إلى الله بكافة السبل الممكنة. [ ص: 62 ]
أي أن الإعلام عن الإسلام ليس وقفا على رسول الله وحده، بل يشمل أمته كلها.. ووصل التكليف به حد الوجوب، بل وصل الأمر أن جعل الله الأمة آثمة إذا تراجعت عن إبلاغ هـذه الأمانة للعالم كله، وقد حذر الله من مغبة التقاعس عن الاضطلاع بهذه المسئولية.
وتؤكد الحقائق القرآنية أن التقصير في تحمل المسئولية الإعلامية الإسلامية، يعني عدم الامتثال لأوامر الله تبارك وتعالى، وهذا ينذر بغضب من الله وبسوء العاقبة،
وفي ذلك يقول عز وجل: ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) (البقرة:159 - 160 ) .
فلا أهمية للمبادئ والقيم إذا لم تأخذ فرصتها للنشر والإذاعة، لأنها لا تعدو أن تكون حينئذ آثارا محنطة وأفكارا مهملة لا ينتفع الناس بها، ولا يكشفون عن جوهرها، ولا يستفيدون من النماذج التي تهديهم إليها، ولذلك كان نشر الإسلام والتبصير به لبا من لباب الدعوة وجزءا مهما من أجزائها، وعاملا أساسيا للكشف عن جوهرها.
وهذا يشير إلى أن المسئولية الإعلامية هـي السمة التي ميز الله بها أمة الإسلام على سائر الأمم الأخرى،
وذلك انطلاقا من قولـه عز وجـل: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكـر ) (آل عمران:110) . [ ص: 63 ] وهي تلك المهمة التي فضل الله الذين يتصدون لها، وجزاهم وقربهم إليه عمن سواهم،
وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33) .
وإذا كان على كـل مسلـم أن يدعـو في حـدود ما يعرف، وبقدر ما تسمح له بذلك قدراته ومعارفه، فإن عليه أن يوسع ويعمق من دائرة معارفه بكافة السبل الممكنة، حتى لا يدعو إلى الباطل وهو لا يدري، وبذلك يضلل الناس بدلا من أن يهديهم.
وقد كرم الله العلماء، وبوأهم منزلة رفيعة، لا لأنهم يختزنون العلم في صدورهم، ولكن لأنهم ورثة الأنبياء في الإعلام بدين الله، وهداية الجماهير إلى طريق الحق والخير، فهم بمثابة شموع تضيء الطريق لأقوامهم باعتبارهم الأكثر علما، والأوسع أفقا، والأرحب فكرا، والأقرب إلى الله، وهم الذين يقومون بتوضيح الأحكام، وشرح المعاني واستخلاص الحقائق.. كما جعل طلب العلم فريضة على كل المسلمين ليكونوا -كما أراد الله لهم- أمة رائدة قوية ومعطاءة تحقق ما أراد الله لهـا بقولـه تعالـى:
( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج:41) . [ ص: 64 ]
وليس للمسلمين بعد ذلك عذر إذا قصروا في تحمل مسئولية البلاغ التي كلفهم الله بها.