المقـدمـة
إن الصدمة الاستعمارية للمنطقة العربية الإسلامية، التي بددت خلالها مدافع الغرب ليل الأمن الواهم الذي عاشته شعوبها تجتر أمجاد ماض تليد، أثارت سؤالا محوريا طالما احتدم الجدل بشأنه بين مختلف دعاة الإصلاح طوال ما يربو عن القرن ونصف القرن. ويتعلق بالموقف من هذا الغرب الزاحف ومن حضارته، ليشمل:
- أسباب انحطاط المنطقة العربية الإسلامية، كجزء من العالم الإسلامي، وتقدم العالم الغربي.
- ثم السبل الكفيلة بتحقيق النهضة الحضارية من جديد.
لكن، ولئن تمسك فريق حتى اليوم بطرح هذه الأسئلة بالحدة نفسها التي طرحت بها منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ... فإن قطاعا مهما من النخبة العربية اختصر السؤال وحول الحوار حول الاختيار بين بدائل تنتمي كلها إلى معسكر واحد، اشتراكية أم رأسمالية [1] . وذلك، منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية ، حيث طرأت على الساحة الدولية جملة من المتغيرات، ساهمت بقسط وافر في تبديل جذري لمراكز القوى العالمية، دخل بمقتضاه نجم الإمبراطوريات [ ص: 33 ] الأوربية الاستعمارية، التي هيمنت على العالم ردحا من الزمن، مرحلة الأفول بعد أن أثخنتها الحروب، ليسطع بالمقابل نجم كل من الولايات المتحدة الأمريكية ، والاتحاد السوفياتي ، الذي تفتت بدوره كدولة عظمى إثر مقاومة شرسة من الكتلة الرأسمالية تحت إمرة أمريكا...
وباقتصار الاختيار على بدائل تنتمي كلها إلى المعسكر الغربي وتقف على أرضه، فإن سبل النهضة أصبحت واضحة بينة مستقيمة ليس فيها لبس ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا ونكون لهم شركاء في الحضارة! [2] وذلك رغم اختزال النهضة في البعد الاقتصادي، الذي تحولت معه القضية -للأسف- إلى قضية اقتصادية، وصورت المشكلة على أنها "التخلف الاقتصادي" والهدف على أنه التنمية [3]
وعلى هذا الأساس، فإن الجدل تمحور حول مفهوم التنمية الذي يحقق التقدم الاقتصادي...
واليوم وبعد انقضاء ما يربو على نصف القرن، فإن المنطقة العربية الإسلامية، تقف على عتبة القرن الواحد والعشرين دون أن تتمكن من [ ص: 34 ] تحقيق التقدم، ولا كسر أطواق التخلف الاقتصادي، الذي يتجلى في أحد أبعاده في مشكلة الغذاء، التي ما فتئت تنخر كيانها.
فما هي مظاهر هذه المشكلة؟ وما هي أسبابها؟ ذلك هو موضوع الفصلين الأول والثاني من هذا البحث.
فالمظاهر تتمثل في عجز الطاقة الإنتاجية الغذائية العربية الراهنة عن تغطية الحاجات الاستهلاكية. وقد تجسد ذلك العجز في تدن هائل لمستوى الاكتفاء الذاتي الغذائي، ترتب عنه لجوء متزايد إلى السوق الخارجية للاستيراد أو طلب المزيد من المعونات الغذائية، بكل ما ينجم عنه من تكريس لتغيير عادات وأنماط الاستهلاك، ومن ثم غزو حضاري وارتهان غذائي ومالي. أما الأسباب، فتنقسم إلى مباشرة، وغير مباشرة.
وتنحصر المباشرة منها في الاستعمار بشكله التاريخي الاستيطاني، التقليدي، والمعاصر المقنع، أو الجديد، الذي قام بدور كبير في زرع جذور مشكلة الغذاء ثم في استمرارها، إضافة إلى الاختيارات التنموية التي منحت التصنيع الأولوية المطلقة على أساس أنه يعني التنمية. وبهذا الخلط بينهما، فإن أهم مؤشراتها اختزلت في متوسط الدخل الفردي، وفي معدل نموه، حتى وإن كان يخفي في طياته فوارق مجحفة بين مختلف المداخيل، كما هو الشأن في سائر [ ص: 35 ] الأقطار العربية الإسلامية.
وبذلك الخلط أيضا فإن مفهوم التنمية، اقتصر على النمو الكمي للمواد، الذي لن يتحقق إلا بالتحديث المرادف للتصنيع، رمز التحضر ونبراس التقدم.. والتحديث لا يعني في هذا الإطار، إلا اللجوء إلى الخارج لتوريد التقانة، وذلك على حساب تطوير التقانة المحلية، وتشييد صرح إبداع تقاني خاص بها.
ومن ثم، وتحت غطاء تفوق الحديث على كل ما هو تقليدي، أو الدخيل على كل ما هو أصيل، فإن تراكم تجربة سنين عدة اكتسبت معها تلك التقانة ملاءمة أفضل تقبر كليا، لتحل محلها التقانة المستوردة، على أساس أن النمو الكمي بالدول الصناعية حقق بمقتضاها قفزات عملاقة. وذلك دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي ولدت فيها، ولا التحولات الهيكلية، والفكرية، التي واكبت تطورها.
فبهذا المفهوم للتصنيع الذي يجمع بين التنمية والتحديث -حيث تقتصر التنمية على النمو الكمي، ودور التحديث في إنجاز ذلك النمو بالاعتماد كليا على الدول الغربية، ومن ثم وضع التقانة في قلب التصنيع أو التنمية أو التحديث- اتخذ الأنموذج الغربي كمثال، لكنه لم يفض إلا إلى نتائج مخيبة للآمال على أرض المنطقة العربية الإسلامية، وذلك رغم استئثار التصنيع بالجزء الأوفر من جملة [ ص: 36 ] الاستثمارات، بالتوازي مع فرضه نوعا معينا من الإنتاج لا يمت إلى تلبية طلبات السوق الداخلية بصلة.
وحتى بعض الأنشطة الفلاحية التي ظفرت بشيء من الاهتمام في غمرة التحديث، كانت تلك المعدة للتصدير حتى لا ينضب تدفق العملة الصعبة، فتتعثر المسيرة التنموية. وبذلك تنكشف العلاقة بين التصنيع ومشكلة الغذاء، التي لم تجن من ورائها الفلاحة إلا مزيدا من التخبط في جملة من المشاكل الداخلية، على غرار قضية التوزيع العقاري الذي يشكو من التفتت والتفاوت فضلا عن تدهور ظروف الإقامة بالريف، بكل ما ينجم عنها من نزوح، ومن ثم تدهور للإنتاج الغذائي، مما يساهم مباشرة في استفحال مشكلة الغذاء.
أما الأسباب غير المباشرة فتتجلى من خلال كل من العوامل الديمغرافية والطبيعية، بما في ذلك الجفاف، والتصحر، والانجراف...، التي بوضعها على محك الواقع، تبين من ناحية أن العجز الخطير في الإنتاج بالنسبة لاحتياجات الاستهلاك من المحاصيل الفلاحية الغذائية الذي تعاني منه المنطقة العربية الإسلامية، ما فتئ يحصل في الوقت الذي يشكو فيه جزء مهم من مواردها الزراعية -أي الأرض والمياه- قلة الاستعمال.. ومن ناحية أخرى أن يد الإنسان ساهمت بقسط كبير في استفحال الظواهر الطبيعية الآنفة الذكر. [ ص: 37 ]
ولعـل مـثل هذا الوضـع ينسحب على الصعيد العـالمي، حيث يشـكو زهاء [800] ملـيون نسـمة المجـاعة وسـوء التغذية، الظاهرة التي تعبر في اعتقادنا عن أزمة حقيقية فيما بين الإنسان وعلاقته ببيئته الطبيعية.
ففيم تتمثل تلك العلاقة؟ وكيف تتجلى بعض مظاهر أزمتها؟ وهل من بديل لتلك العلاقة؟ ذلك هو موضوع الفصل الثالث والأخير من هذا البحث، الذي يراهن على قدرة الإسلام في إعادة الوفاق والتكامل بين الإنسان وبيئته الطبيعية، بدل الصراع والتنافر، كخطوة ضرورية أولى في اتجاه مراجعة عميقة لمفهوم التنمية الذي وقع تطبيقه على صعيد المنطقة العربية الإسلامية، كجزء من العالم الثالث. [ ص: 38 ]