تقديم
عمر عبيد حسنةالحمد
لله الذي جعل التفكير وتحصيل المعرفة فريضة شرعية، ودليل الاهتداء والإيمان، كما جعل الاجتهاد سبيل التجديد والتجدد للرسالة الخاتمة، ووسيلة النمو والامتداد وتحقيق الخلود واستنباط الأحكام، وتنزيلها على الوقائع المستجدة والمتغيرات الحياتية، وناط الثواب بالقيام بعملية التفكير، فأثاب المجتهد المصيب بأجرين، وجعل للمجتهد المخطئ أجرا واحدا، ولم يجز على الخطأ في أي أمر من الأمور إلا على ممارسة التفكير والاجتهاد.
وغاية ما في الأمـر بالنسبة للخطأ أنه تجـاوز عـنه، ( فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تجـاوز عن أمـتي الخطـأ والنسـيان وما استكرهوا عليه». ) (أخرجه ابن ماجه) ، وجعل للمجتهد المخطئ أجرا على ممارسة الاجتهاد -لا على الخطأ- للحض على الاجتهاد، والدعـوة إليه، وعدم الخوف من الإقدام عليه والارتياب من نتائجه أو أخطائه.
فإذا أدركنا ما للاجتهاد من أبعاد فكرية وثقافية وذهنية، وتنموية وعلمية وتربوية ونهضوية علمنا أهمية الدعوة إليه والحض عليه، خاصة وأن الاجتهاد في التصور الإسلامي يشمل قضايا الحياة جميعها؛ سواء في [ ص: 5 ] ذلك فترات السلم والأمن، أو فترات الخوف والحرب، قال تعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء: 83) .
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المجتهدين، الذي كان يجتهد في تنزيل الوحي، وفيما لا وحي فيه، ويدرب أصحابه على الاجتهاد، ويطلب إليهم الرأي في الكثير من القضايا بقوله: ( أشيروا علي في... ) (أخرجه البخاري) ، حتى لقد جعلت الشورى وتداول الرأي وإعمال الفكر من تكاليف النبوة،
قال تعالى: ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران:159) ،
مع أن النبوة مستغنية عن الشورى بالوحي. كما جعلت -الشورى- من خصائص المسلم، وسمات مجتمع المسلمين؛ قال تعالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى: 38) .
والشورى تعتبر من أعلى أنواع الاجتهاد وأعمها وأرقاها؛ ذلك أن المجتمع المسلم في عصر النبوة والخلافة الراشدة كان جميعه محل الشورى والاجتهاد، ولم تكن الشورى خاصة بأناس بأعينهم.
ولعل من الأمور الملفتة حقا أن الشورى التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل معركة أحد والالتزام بها كانت -بحسب الظاهر- سببا في الهزيمة،
ومع ذلك كان نزول قوله تعالى: ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران: 159)
بعد الهزيمة؛ وذلك خشية عدم التزامها أو العدول عنها واعتبارها المسئولة عن الهزيمة. [ ص: 6 ]
وقد يكون من المعالم التي لا بد من التوقف عندها أن الاجتهاد يعتبر من لوازم خاتمية النبوة، وتوقف الوحي، والتصويب من السماء؛ خاصة وأن النصوص تتناهى، والحياة والحوادث متجددة لا تتناهى، وأن الاجتهاد وتنزيل النصوص على الوقائع وتعديتها إلى ما يستجد من القضايا وبيان الحكم الشرعي لها من لوازم الخلود أيضا، فالخاتمية والخلود إعلان لحق الاجتهاد والنظر، وإطلاق لحرية العقل والاجتهاد، بحيث لا يكون ذلك حق فقط، وإنما هـو حق وواجب أيضا.
وإن أي توقف عن الاجتهاد والنظر يعني محاصرة الخلود، وتجميد الشريعة، والحكم بعدم صلاحيتها لكل زمان ومكان، وإزاحة لها عن واقع الناس، ووضعها في خانة التاريخ، وإعطاء العقل المسلم إجازة عطالة، الأمر الذي مكن ويمكن من امتداد (الآخر) بقوانينه وقيمه، أو على أحسن تقدير تحويل فاعلية العقل المسلم إلى المساهمة بإنتاج (الآخر) .
ومن هـنا ندرك المخاطر الكبيرة -العقلية والثقافية والقانونية والاجتماعية- التي ترتبت على إغلاق باب الاجتهاد، بحجة عدم توفر الأهلية أو درءا للمفاسد، فكانت النتيجة هـي الوقوع في المفاسد، وكأن الله الذي قضى بخلود الشريعة وخاتميتها وجعل الاجتهاد والتجديد من لوازمها وسبيل نموها غير عالم بالزمن وفساده، وتقلب أحواله، علما بأن باب الاجتهاد لم يقفل عمليا إلا على أهل الورع والتقوى، الذين هـم محل العلم والفتوى والاجتهاد، وأما أهل الفساد والإفساد والزيغ وفقهاء السلطان فلم يردعهم شيء، وكان [ ص: 7 ] الأولى إطلاق أمر الاجتهاد حتى تسقط اجتهاداتهم وفتاواهم بوجود الفتوى والاجتهاد الأصلح؛ لأن البقاء والوراثة الثقافية والحضارية للأصلح والأصوب.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثالث والتسعين: «في الاجتهاد التنـزيلي» للدكتور بشير بن مولود جحيش ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر؛ مساهمة في إعادة التشكيل الثقـافي، وتحرير صور التدين مما لحق بها من الكهانات وما تسرب إليه من علل الأمم السابقة، وبناء النخبة التي تمثل (عقل الأمة) ، أو الطائفة القائمة على الحق، التي تشكل خمائر النهوض، وتمتلك القدرة على إبصار الواقع، وتجتهد في تقويـمه بقيم الإسـلام، كما تمتلك القدرة على اكتشاف دوائر الخير في المجتمعات، وتسعى للتوسع فيها؛ من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، وفي ضوء السنن الفاعلة في الحياة والأحياء؛ سقوطا ونهوضا، بعيدا عن المجازفات والمواجهات وتقديم الضحايا والتضحيات تحت رايات عمـية جعلت من المسلمين رصيدا جاهزا للاستعمال وتصفية الحسابات بدمائهم.
ولعل من الأمور الاجتهادية المهمة ما يتمثل في إبصار النوازل قبل وقوعها، والاجتهاد في كيفية تجنب الأزمة، والوقاية منها، والقدرة على إدارة الأزمة حال نزولها، وتقديم المسلم المعاصر برؤيته المستمدة من معرفة [ ص: 8 ] الوحي كأنموذج حضاري جديد يغري بالاتباع بالإقناع بعيدا عن الإكراه؛
استجابة لقوله تعالى: ( لا إكراه ) (البقرة:256)
وقوله: ( وما أنت عليهم بجبار ) (ق:45) .
إن التوجه العام صوب الفكر الاجتهادي، والتفكير الاجتهادي، وإعادة بناء ثقافة الاجتهاد، أو إيقاظ وتنشيط ذهنية الاجتهاد، بعد هـذه الحقب المتوالية من التقليد والجمود والانقطاع والتخاذل يعتبر مؤشر صحة وعافية للعقل المسلم، ومحاولة لاستعادة فاعليته ومكانته، والقضاء على حواجز الخوف من التأثيم والتخطيئ، وعودة إلى الوضع الطبيعي، والاضطلاع بالوظيفة الشرعية والعضوية للعقل المسلم، وكيفية تعامله مع الوحي، وتكامله مع معرفته.
لقد آن الأوان للتحول من قول إن: «الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان» كشعار مرفوع إلى محاولة التفكير والاجتهاد في كيفية تنزيل هـذا الشعار وتجسيده في واقع الناس، والممارسة العملية لأحكام الشريعة واستعادة حيويتها وامتدادها بحسب الاستطاعات، وتحويل أصول الفقه من قواعد وآليات نظرية مجردة إلى الواقع التطبيقي العملي.
وقد يكون من مظاهر هـذه الحيوية وهذا الإحياء: قيام دراسات مستفيضة حول الاجتهاد الجماعي، والاجتهاد المقاصدي، والاجتهاد التنـزيلي، وإعادة النظر بشروط الاجتهاد وكيفية تكوين الملكة الفقهية، [ ص: 9 ] والقيام بمقارنات بين الشريعة بقيمها وقوانينها في المجالات المتعددة وبين القوانين الوضعية على مسـتوى الفرد والدولة والأمة والإنسانية، والتقدم للنظر في القضايا والمشكلات الإنسانية من وجهة نظر إسلامية، من خلال اجتهاد فكري يمثل الإذاعة والإحساس بالمشكلة؛ لتأتي بعدها مرحلة علم الاستنباط مما يطلق عليه مصطلح: «الاجتهاد الفقهي التنـزيلي».
وإذا صح القول بضرورة إغلاق باب الاجتهاد في الأمور العبادية وأحكامها، والتوقف عند الصورة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا في بعض الأمور الشكلية جدا المترافقة والميسرة لأدائها؛ نظرا لأنها توقيفية بطبيعتها وأدائها، وغير متطورة في نوعيتها وطبيعتها وجوهرها، فإن ذلك لا ينطبق بحال على الأمور الحياتية بعلاقاتها ومشكلاتها وإمكاناتها ومتغيراتها ومعاملاتها شديدة التعقيد والتداخل والمستجدات، وهذا ما نلمحه من تطور الفقه والاجتهاد، وما استجد منه بين عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد عمر رضي الله عنه ، على الرغم من أن الزمن لا يكاد يعدو عقدا واحدا فكيف بنا اليوم أمام هـذا التسارع العجيب، واختزال الزمان والمكان؟
ومن الأمور الملفتة أن الشريعة الإسلامية بقيمها وقوانينها وأحكامها ما تزال مستمرة وممتدة، وتشكل محاور علمية وثقافية وقانونية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، فهي تفرض وجودها بقوتها الذاتية على [ ص: 10 ] الباحثين والدارسين والقانونيين والحقوقيين ومنظمات العمل وحقوق الإنسان، وفي المعاهد والجامعات ومراكز البحوث، على الرغم من إقصائها عن واقع الناس وتهميشها في ركن مركون من مسـائل الأحوال الشخصية، وعلى الرغم من غياب الدولة أو السلطة التي تعتبر الشرط الأساس لاستمرارها ونموها وامتدادها وبسطها على حياة الناس.
وبالإمكان القول : إن الشريعة باقية وممتدة في الأمة، على الرغم من غيابها وإقصائها في ممارسات الدول.
والحقيقة التي ما تزال غائبة عن كثير من الناس أن تطبيق الشريعة وتنزيلها على الواقع منوط بالاستطاعة والإمكان، وأن تنـزيلها يبدأ مع الإنسان من حيث هـو، ومن خلال استطاعته، حيث يطبق من الأحكام ما يتوافق مع الاستطاعة، ويترقى شيئا فشيئا، وبذلك يكون قد نزل وطبق الإسلام الذي هـو مكلف به في هـذه المرحلة، حتى رأى بعض العلماء أن ما وراء ذلك من الأحكام لا يرد فيه التكليف أصلا بالنسبة لحالته إذا فقدت الاستطاعة، وبذلك نقول:
إن كل مسلم يمكن أن يطبق الإسلام من اللحظة التي يبدأ فيها، وينزل أحكامه على حياته، ويتدرج، وهذا هـو الوضع الطبيعي، أما أن نقضي بعدم تنزيل الأحكام على واقع الناس بحجة أنهم غير مؤهلين لذلك بإطلاق، ومن ثم نحاول تأهيلهم بأحكام ومناهج بعيدة عن الشريعة، فهي خديعة ثقافية وقانونية، إذ كيف يمكن أن يهيأ [ ص: 11 ] إنسان بقيم وأحكام لا تمت إلى الشريعة؟ ومتى يصبح مؤهلا لتطبيق وتنـزيل أحكام الشريعة؟
إننا نؤهله بالمستطاع من الشريعة؛ لتنـزيل أحكام الشريعة واستكمالها.
ومن هـنا نقول: إن دراسة محل التنـزيل واختبار مدى توافر الشروط في المحل من الأهمية بمكان، فهي -فيما نرى- لا تقل عن فقه الحكم، ذلك أن فقه الحكم دون فقه المحل المراد تنـزيله عليه ومدى استطاعته، قد يكون نوعا من العبث والإساءة للحكم نفسه.
ولا يقل أهمية عن الاجتهاد في دراسة الواقع (محل التنـزيل) واختبار مدى توفر الشروط المطلوبة، وما يتطلب ذلك من أدوات معرفية لتنزيل الحكم الشرعي، الاجتهاد والنظر والتبصر في العواقب والتداعيات التي يمكن أن تترتب على تنـزيل الحكم على محله؛ أي: النظر في الأبعاد الزمانية والمكانية، إلى جانب توفر الاستطاعة مناط التنزيل، ذلك أن النظر في العواقب والمآلات التي يفضي إليها التطبيق يعتبر قسيم الفقه في الدين.
ومن هـنا ندرك بعض أبعاد ( دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهم بقوله : « اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل». ) (أخرجه الإمام أحمد) ، فبدون معرفة المآلات والعواقب التي تترتب على تنـزيل الحكم على الواقع يغيب الفقه الحقيقي في الدين، ويساء التطبيق، ويتعسف فيه، [ ص: 12 ] ويعبث بالأحكام الشرعية، الأمر الذي يؤدي إلى العنت، وغياب الأهداف والمقاصد، التي من أجل تحقيقها جاءت الشريعة.
لذلك نقول: إن فقه المقاصد والاجتهاد في اختيار الأحكام الملائمة للواقع، المحققة للمقاصد، المبصرة للعواقب والمآلات يعتبر من أرقى أنواع استشراف المستقبل والتخطيط له أو علم المستقبليات بالمصطلحات الحديثة، أو من فقه المستقبل.
من هـنا نرى أن الخطورة كل الخطورة تكمن في غياب الفقه المستقبلي؛ فقه التداعيات والعواقب المترتبة على التنزيل، والظن بأن الفقه في الدين عبارة عن حفظ الأحكام الشرعية، أو الاقتصار على الفقه في الدين، وغياب علم التأويل، (معرفة تداعيات تنـزيل الحكم المستقبلية) .
ولا شك أن الذي امتد في حياتنا واستبحر كثيرا هـو فقه الحكم الشرعي، وهذا شيء طيب وجيد، لكنه يبقى محنطا ومحاصرا ومثاليا وغير واقعي؛ إذا لم يترافق مع فقه المحل وشروط التنـزيل في الوقت نفسه.
ولعل النمو في فقه الحكم والضمور في فقه المحل، واختبار مدى توافر شروط التنزيل هـو الإشكالية الكبيرة وهو أساس الخلل في مسيرتنا الفقهيه؛ ذلك أن فقه المحل يتطلب تخصصات معرفية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية لا بد من توافرها إلى جانب العلم الشرعي في فقه الحكم. [ ص: 13 ] والاجتهاد التنـزيلي في نهاية المطاف ما هـو إلا الإدراك الكامل لفقه الحكم ولفقه المحل، ومن ثم القيام بتنـزيل الحكم على الواقع البشري الملائم للحكم الشـرعي في هـذه المرحلة من الاستطاعة، وهنا محل الاجتهاد حقيقة.
وهنا ملحوظة نرى أنه من المفيد الإشارة إليها؛ وهي أن عدم توفر شروط تنـزيل حكم شرعي على محل الحكم لا يعني تجاوز أحكام الشريعة أو تعطيلها، أو العدول عنها، بقدر ما يعني أهمية الاجتهاد في اختيار أو استنباط الحكم الشرعي المناسب للاستطاعة في هـذه اللحظة.
وقد يكون من المفيد أن نشير هـنا إلى أن الاجتهاد التنـزيلي على أهميته في بيان حكم الله في قضايا الناس ومشكلاتهم، التي يعانون منها على مستوى الفرد والمجتمع، أو ما يمكن أن نطلق على بعض جوانبه: « فقه النوازل » في تاريخنا الفقهي، فإن معظم ما توجه إلى معالجته هـو الواقع القائم أي: «ما هـو كائن»، وبذلك فإن الاجتهاد التنـزيلي أو «فقه النوازل» ما يزال يسير خلف المجتمع؛ ليحكم على أفعاله، ويبين حكم الله فيها بمراتب الحكم المختلفة، بينما نرى أن الوضع الأمثل هـو في عدم الاقتصار على ذلك، وإنما التحـول للسير أيضا أمام المجتمع، بحيث يبين له خط سيره؛ أي الانتقال مما هـو واقع إلى ما هـو متوقع، بحيث يصبح الاجتهاد التنـزيلي هـو أيضا اجتهاد واستشراف مسـتقبلي، وبذلك يكون الاجتهاد دليل المجتمع لعمل ما هـو مشروع، والامتناع عما هـو غير مشروع. [ ص: 14 ] فالنفرة الفقهية لا بد أن تتحول من الساقة (المؤخرة) إلى الطليعة (المقدمة) -بالعرف الاستراتيجي- ذلك أن عدم تحولها إلى الاستشراف المستقبلي -فيما نرى- إنما كان ذلك بسبب من غياب الرؤية التنموية ومسالكها وتداعياتها ومتطلباتها، وعدم المشاركه فيها، وغياب الدولة كمؤسسة تنفيذية لتنـزيل الأحكام، فيما يخص المجتمع والدولة، إضافة إلى ما يخص الفرد.
هذه قضية، وقضية أخرى هـي أن الاجتهاد بعمومه ما يزال يقتصر على بيان الحكم التشريعي، ولما يمتد بعد بالقدر الكافي إلى بقية مجالات الحياة وآفاقها الاجتماعية والتربوية والتنموية والاقتصادية والسياسية، مع أن الاجتهاد واستنباط الحكم مطلوب بنص القرآن الكريم لحالات الأمن والخوف على سواء؛ انطلاقا من
قوله تعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83)
إن امتداد الاجتهاد إلى مجالات الحياة جميعها -بما فيها الأمن والخوف- يتطلب بناء الثقافة الفقهية الجماهيرية التي يجب أن تشيع في الأمة، والتي تشـكل الشـاشة اللاقطـة للصور، بحيث تلتقط هـذه الثقافة الإشكاليات والمعاناة الناجمة عنها، وتتحرك للتفتيش عن حلول لها [ ص: 15 ] ( أذاعوا به ) (النساء: 83) ، لتجدها عند أهل العلم والاختصاص والاستنباط: ( لعلمه الذين يستنبطونه ) (النساء: 83) .
وهنا لا بد من التمييز بين معرفة الحكم الفقهي وبين استنباطه؛ فمعرفة الأحكام وحفظها قد لا تتطلب نفس المؤهلات التي يتطلبها الاجتهاد، الذي يعني استنباط الحكم الملائم للواقعة أو النازلة من النص، وهذا يتطلب فقه النص وفقه المحل معا، بينما الفقه من بعض الوجوه هـو معرفة الأحكام الشرعية بعد استنباطها، وقد يكون هـذا هـو الفرق بين الفقه وبين أصول الفقه.
لذلك نقول: إن المطلوب للفقه التنـزيلي مجتهدون تتوافر لهم الأهلية، وليس حفظة للفقه أو مدرسين له؛ ذلك أن بعض حفظة الفقه قد يكونون عاجزين عن الاجتهاد بشكل عام والاجتهاد التنـزيلي بشكل أخص.
وهذا الكتاب الذي نقدمه وهو في أصله رسالة علمية تخصصية، يمكن أن يعتبر إحدى الخطوات التأصيلية الجادة والمهمة في عملية الإحياء والتجديد والتحريض الثقافي، التي أفردت لها السلسلة -على تاريخها الطويل- مساحات كبيرة؛ سواء في مجال الاجتهاد الفردي وتكوين الملكة الفقهية أو في مجال الاجتهاد الجماعي والتشجيع على التشاور وتداول الرأي، والاجتهاد المقاصـدي الذي يضبط العملية الاجتهادية بمقاصدها حتى لا يتحول الاجتهاد إلى آليات وقواعد مجردة بعيدة عن رؤية الأهداف، [ ص: 16 ] إضافة إلى الرحلة الثقافية للسلسلة، التي يمكن أن تصنف جميعها في مجال إحياء الاجتهاد الفكري.
ونعاود القول: إن مثل هـذه التوجهات والاجتهادات صوب استرداد دور الاجتهاد، والتدليل على أهميته في حياة الأمة الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية والاقتصادية يعتبر دليل عافية وعلامة صحة وحيوية بعد هـذا الجمود والانقطاع، وسيادة التقليد على المستوى الجماعي والفردي.
إن التحول من حالة معرفة الأحكام الفقهية إلى مرحلة كيفية استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع، والتحول من الاجتهاد في إطار الحكم والنص إلى الاجتهاد في إطار المحل وتوافر شروط التنـزيل، والتحول من مرحلة إثبات النص الذي أخذت جهدا ووقتا -على أهميته وضرورته- إلى إعمال النص في واقع الحياة ومسيرتها المستقبلية هـو المعادلة الصعبة التي تتطلب جهودا متنوعة متكاملة وتخصصات معرفية متعددة؛ للعودة بالحياة إلى القيم الإسلامية، وإعادة القـيم الإسلامية لحكم الحياة، وتحقيق سعادة الناس وإلحاق الرحمة بهم؛
تحقيقا لمقاصد قوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .
وهذا الكتاب وهو في أصله رسالة علمية تخصصية يمكن أن يعتبر إحدى الخطوات التأصيلية الجادة والمهمة في عملية الإحياء والتجديد والتحريض الثقافي، التي أفردت لها سلسلة «كتاب الأمة»، على تاريخها [ ص: 17 ] الطويل مساحات كبيرة؛ سواء في مجال الاجتهاد الفردي وتكوين الملكة الفقهية، أو في مجال الاجتهاد الجماعي والتشجيع على التشاور وتداول الرأي، والاجتهاد المقاصدي الذي يضبط العملية الاجتهادية بمقاصدها حتى لا يتحول الاجتهاد إلى آليات وقواعد مجردة بعيدة عن رؤية عن الأهداف.
وتعتبر مثل هـذه التوجهات والاجتهادات صوب استرداد دور الاجتهاد، والتدليل على أهميته في حياة الأمة الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية والاقتصادية دليل عافية وعلامة صحة وحيوية بعد هـذا الجمود والانقطاع وسيادة التقليد على المستوى الجماعي والفردي.
إن التحول من حالة معرفة الأحكام الفقهية إلى مرحلة كيفية استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع، والتحول من الاجتهاد في إطار الحكم والنص إلى الاجتهاد في إطار المحل وتوافر شروط التنـزيل، والتحول من مرحلة إثبات النص، الذي أخذت جهدا ووقتا -على أهميته وضرورته- إلى إعمال النص في واقع الحياة ومسيرتها المستقبلية هـو المعادلة الصعبة التي تتطلب جهودا متنوعة متكاملة وتخصصات معرفية متعددة؛ للعودة بالحياة إلى القيم الإسلامية، وإعادة القيم الإسلامية لحكم الحياة، وتحقيق سعادة الناس وإلحاق الرحمة بهم. [ ص: 18 ]