مقدمة
جاءت الشريعة الإسلامية هـادية لحياة الإنسان في الفكر والعمل، تسدد الفكر إلى الحق، وترشد العمل إلى الخير والصلاح، وذلك عبر قسمي الاجتهاد: الاجتهاد في الفهم، والاجتهاد في التطبيق (التنـزيل) .
أما الاجتهاد في الفهم: فهو استجلاء الخطاب الشرعي لتمثل خطاب الشارع فيه، أمرا ونهيا، وسبيله أمران:
أولهما: استظهار واستكشاف تلك المفاهيم الكلية وتعقلها، وتحديد حقائقها من النصوص، وبيان دلالاتها التفصيلية على المعاني، من خلال أدوات الفهم المعتبرة، وهذا ما يسمى بـ: الاجتهاد في نطاق النص.
وثانيهما: الاجتهاد «فيما لا نص فيه» استهداء إليه من منطلق القواعد العامة والمقاصد الكلية للتشريع، وذلك عبر أنواعه المختلفة.
وغاية الفهم عبر المسلكين كليهما حصول تصور يقيني أو ظني لمراد الله تعالى في التكليف.
وأما الاجتهاد في التطبيق (التنـزيل) : فهو الإجراء العملي لما حصل على مستوى الفهم التجريدي للأحكام الشرعية على واقع الأفعال، وتكييف السلوك بها. وهذا في الحقيقة لا يقل خطرا وأهمية عن الأول؛ إذ هـو مناط ثمرات التشريع، ولا جدوى من التكلم بحق لا نفاذ له. [ ص: 19 ] وتبرز أهمية هـذا النمط الاجتهادي التطبيقي كلما توسعت خطة الإسلام، وكثرت الوقائع والأحداث المفتقرة إلى اجتهاد يوفق طوارئها إلى هـدي الشـريعة بما يحقق مقاصدها، واجتهاد يكون مـبنيا على أصول منضبطة تقي القائمين عليه مزلات التطبيق، وتعصمهم من دواعي الإفراط والتفريط، ولا جرم أن ذلك لا يتم عبـر التطبيق الآلي للنصوص، بل هـو تطبيق قائم على تحقيق مناطات الأحكام في أنواع وأفراد الوقائع، مما يتيح تنـزيلا صائبا للحكم.
وهذا مشروط بمدى تجسيم تلك العلاقة الجدلية بين الحكم في تجريديته وبين الواقع بملابساته وظروفه؛ بهدف: تحقيق المقاصد الشرعية في التطبيق، تلك المقاصد التي من أجلها شرعت الأحكام وإليها تفضي، وذلك «بحفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه؛ وهو الإنسان».
وقد يتخلف تحقيق هـذه المقاصد لعدم التحقق من مآلات الأفعـال؛ إذ الحكمة لا تقتضي التطبيق الآلي للأحكام دون النظر لما قد يئول إليه ذلك التطبيق، وما يسببه من تداعيات قد تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل هـو محكوم بأصل النظر في المآلات الواقعة أو المتوقعة، لا سيما ونحن في هـذه المرحلة والأمة تتطلع إلى اسـتيعاب الكسب الحضاري الإنساني، ثم إثرائه بما يستجيب لتوجيه الأمة نحو الشهود الحضاري الذي ارتضاه الله تعالى لها، وتجنيب المسيرة الإسلامية مواقع الزلل وعثرات الطريق. [ ص: 20 ] وعلى الرغم من أن علماء الأصول قد أسهموا في بيان وتفصيل أصول استنباط الأحكام الشرعية لفهمها، إلا أن أصول التطبيق لم تنل سوى القليل المجمل، ومن ثم فقد انعدمت أيضا الكتابات المعاصرة حوله؛ إفرادا له وتفصيلا، اللهم إلا مباحث في كتب تناولت فقه التنزيل في بعض جوانبه؛ سواء من حيث التركيز على أبرز منظريه من السابقين، أو البيان لجانب خاص وجزئي فيه.
ولعل أبرز من ركز على البعد التطبيقي في التنظير الأصولي من العلماء السابقين: الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله، في: «الموافقات»
[1] ، و: «الاعتصام» [2] ، فقد جعل الاجتهاد في تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع قسيم الاجتهاد في فهم النص، وعبر عن هـذا الضرب من الاجتهاد بـ: الاجتهاد في تنـزيل الأحكام الشرعية، أو: إيقاعها على الوقائع، أو: تنـزيل الوقائع على الأدلة الشرعية، فقال: «المقصود من وضع الأدلة: تنـزيل أفعال المكلفين على حسبها» [3] ، وعرفه فقال: «أن يثبث الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله» . وقال: بأن هـذا [ ص: 21 ] الاجتهاد: «لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة». [4]
والمتأمل في كتاب: «المقاصد»، في الجزء الثاني من: «الموافقات» على وجه الخصوص، وغيـره من الأجزاء وكذا «الاعتصام» يجد أن الشاطبي -رحمه الله- قد أرسى أصولا لهذا الضرب الاجتهادي، وعلى الباحث المتأمل في كتابه -الذي ينبغي أن يكون كما قال الشاطبي : «ريان من علوم الشريعة؛ أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب» [5] - أن يسعى للكشف عن هـذه الأصول وتركيبها من خلال ما نثره في كتابيه.
ومن أبرز المعاصرين سعيا لتأكيد هـذا النمط الاجتهادي الدكتور محمد فتحي الدريني في كتبه، فيقول: «أما قسيم الاجتهاد بالرأي في الاستنباط والتأصيل والتفريع فهو الاجتهاد بالرأي في التطبيق، وهذا في الواقع لا يقل أهمية وخطرا عن الأول؛ لتعلق اجتناء ثمرات التشريع واقعا وعملا به... هـذا وتبدو خطورة الاجتهاد بالرأي في التطبيق وعظيم أثره، فضلا عن ضرورته أن القرآن الكريم إذ اتخذ في بيانه للأحكام المنهج [ ص: 22 ] الكلي لا التفصيلي لزم أن يكون الاجتهاد بالرأي هـو السبيل الوحيد الذي لا مناص منه؛ للاضطلاع بمهمة التطبيق الواقعي لتلك الكليات على الوقائع الجزئية التي تنتاب المجتمع في كل عصر وبيئة بما يحتف بها من ظروف وملابسات متجددة ومتغايرة لا تنحصر». [6]
وقد أكد الإمام الشاطبي البعد الكلي للنصوص، فقال: «تعريف القرآن الكريم بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية؛ إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل». [7]
ويؤكد الدريني في كتابه: «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي» [8] ضرورة دراسة الواقعة أو الحالة المعروضة درسا وافيا؛ بتحليل دقيق لعناصرها وظروفها وملابساتها، إذ التفهم للنص الشرعي يبقى في حيز النظر، ولا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهم واع للوقائع بمكوناتـها وظروفها، وتبصر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من نتائج؛ لأنها الثمرة العملية المتوخاة من الاجتهاد التشريعي كله». [9] [ ص: 23 ] وبالنظر والدراسة والمراجعة الدقيقة لما كتب حول الاجتهاد التطبيقي من الشاطبي إلى الدريني ، وما بينهما وما بعدهما، يمكن القول: إن الأصول الكلية في الاجتهاد التطبيقي تبقى أبرز مكونات منهج التطبيق، ويبقى الشاطبي أول من ضمن أصول الاجتهاد التطبيقي في كتاباته، كما يبقى الدكتور محمد فتحي الدريني في كتاباته أبرز من حاول الكشف عنها وتأكيدها عند الشاطبي، وإعمالها في النهضة بالفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر، مركزا على أصلين هـامين، وهما: التحقيق في مآلات الأفعال، والتحقيق في مناطات الأحكام، موضحا أن: «النظر إلى نتائج التطبيق ومآلاته أصل من أصول التشريع» [10]
ويؤكد الدريني بذلك قول الإمام الشاطبي رحمه الله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا» [11] . بل جعله أصـلا عتيدا تفرعت عليه قواعد تشريعية، قامت عليها اجتهادات بالرأي واسعة المدى في مذاهب الأئمة.
وتعتبر هـذه القواعد مسالك شرعية ضابطة لمآلات التطبيق، وأبرزها قاعدة الذرائع وقاعدة الحيل. [ ص: 24 ] وهناك من اعتبر النظر في مآلات التطبيق مسلكا من مسالك الاجتهاد المقاصدي في نظرية الشاطبي المقاصدية. [12]
وفي هـذه الدراسة حاولت الإسهام في الجهد العلمي المبذول في هـذا المجال بمعالجة لأبرز أصول الاجتهاد التطبيقي (التنـزيلي) ؛ تحليلا ومناقشة، من خلال التركيز على ضرورة فهم الواقع وكيفية إحكامه بالشرع، فبينت أن تنـزيل الأحكام الشرعية وتكييف الواقع الإنساني وفقا لها هـو ثمرة الخطاب الشرعي، وبقدر ما يكون هـذا التطبيق قائما على أصول منهجية فإنه يحقق مقاصد الشريعة، ويجنب المجتهد مواقع الزلل في الفهم والتطبيق.
وتناولت هـذا الموضوع من خلال بيان مفهوم الاجتهاد التطبيقي (التنـزيلي) ، وشرعـيته، وضرورته، وتحديـد مقوماته الأساسية؛ ليتناول بعد ذلك تفصيل الأصول التطبيقية، مردفة بنماذج تطبيقيـة لتجلية كيفية إعمالها.
فكان الأصل الأول:
تحقيق مناطات الأحكام ؛ وذلك لكون الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدة، بل أتت غالبا بقواعد كلية وعبارات مطلقة متناولة [ ص: 25 ] داخلها أعدادا غير منحصرة من الوقائع والجزئيات المتمايزة والمتشابهة، مما يستوجب بذل جهد في تنزيل هـذه العمومات والمطلقات الحكمية على الأفعال والأحداث التي لا تقع مطلقات بل معينة؛ زمـانا ومـكانا وأشخاصا.
ثم بينت أن الغرض من تنـزيل الحكم عبر تحقيق مناطه هـو إصابة مقصد الشارع، وذلك من خلال أصل:
التحقيق في حصول المقاصد الشرعية، الذي يقتضي فهم الواقع عبر آليات الفهم المختلفة والمتجددة، وفهم حكم الله فيه.
ثم حاولت التأكيد أن ما سبق بيانه لا يعني تنـزيلا آليا للأحكام دون اعتبار لما يئول إليه ذلك التنـزيل، وما يسببه من تداعيات قد تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل ذلك محكوم بأصل:
التحقيق في مآلات التطبيق الذي بمقتضاه تصرف الأفعال من أحكامها الأصلية إلى أحكام أخرى؛ تلافيا لما قد ينتج عن الأولى من مآلات فاسدة في ظروف بعينها، وتوجيهها إلى مآلات الصلاح عبر مسالك شرعية ضابطة لذلك. [ ص: 26 ]