الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في الاجتهاد التنزيلي

الدكتور / بشير بن مولود جحيش

المبحث الثالث: مسالك تحصيل المقاصد الشرعية

إن الكشف عن مقاصد الأحكام على المستوى التجريدي خطوة ضرورية للفهم، مردها إلى الاجتهاد فيه، وقد بين الأصوليون مسالك الكشف عن العلة من نقلية وعقلية في مجال القياس، غير أن محاولتي الشاطبي ثم ابن عاشور فيما بذلاه من جهد لتقعيد مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة تعد خطوة متقدمة في هـذا السبيل؛ لإنارة درب المجتهد في تبين مقاصد الأحكام المجردة.

غير أن «خلو الأدب الأصولي من بيان واف لقواعد تعرف بالمصير الواقعي لعلاقة الحكم بمقصـده يعتبـر أكبر الثغرات في هـذا الأدب، وربما عادت كثير من المزالق في الاجتهادات الفقهية قديما وحديثا إلى هـذه الثغرة في أسباب وقوعها» [1] .

وعليه فإن النظر المتحتم الآن على أهل الاجتهاد أن يبحثوا عن المسالك والطرق الواقعية للكشف عن مدى تحقق المقاصد الشرعية عند تنـزيل الحكم؛ بحثا تنظيريا يعصم من الزلل الذي يقع فيه كثير ممن أخطئوا المقصد في تنزيلهم الأحكام، فجلبوا المضار والمفاسد على الأمة.

إن منهجية تبين تحقق مقاصد الأحكام عند التنـزيل تعتمد أساسا على دراسة الواقع وتحليله وفقه ملابساته وحيثياته، وهذا يتطلب استنفار كل الطاقات في التخصصات المختلفة؛ أي أن هـناك عناصر عدة بعضها [ ص: 92 ] نفسي وبعضها تربوي وبعضها اجتماعي ينبغي مراعاتها نأيا عن تنـزيل الحكم تنـزيلا آليا دونما استيعاب لحيثيات وملابسات الواقعة محل تنـزيل الحكم، ثم مناظرة مقصد الحكم بعد تحصيل فهمه بعناصر ذلك الواقع المدرك في جزئياته، فإذا ترجح حصول مقصد الشارع أمضي تنـزيل الحكم.

وهذا ما يؤكده إمام الحرمين الجويني في اشتراطه للمتصدي للاجتهاد فيقول: «لست أعرف خلافا بين المسلمين أن الشرط أن يكون المستناب لفصل الخصومات والحكومات فطنا، متميزا عن رعاع الناس، ومعدودا من الأكياس، ولا بد أن يفهم الواقعة المرفوعة إليه على حقيقتها، ويتفطن لمواطن الإعضال، وموضع السؤال، ومحل الإشكال منها ثم يتخير مفتيا، ويعتقد أن قوله في حقه بمثابة قول الرسول في حق الذين عاصروه فيتخذه قدوة وأسوة» [2] .

وهذا ما أكده ابن القيم أيضا عند شرحه " لقول الفاروق رضي الله عنه في رسالته لأبي موسى الأشعري : «فافهم إذا أدلي إليك». " فقال: «صحة الفهم وحسن المقصد من أعظم نعم الله تعالى التي أنعم بها على عبده... ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما. [ ص: 93 ] والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هـذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر... فالعالم من توصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله... ومن تأمل الشريعة وأقضية الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هـذا أضاع على الناس حقوقهم» [3] .

وهذه المعرفة بالوقائع ضرورية للكشف عن مدى تحقق المقصد في أفراد هـذه الوقائع أوعدم حصوله، وإن كان هـذا يعد إشكالا؛ إذ كيف يمكن معرفة ذلك قبل وقوع أسبابه «لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب؛ أي بعد تنـزيل الحكم على الواقعة، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها» [4] . بيد أن الأمر يتطلب تسديدا وتقريبا، ومن ثم فإن هـناك من المسالك الشرعية ما يعين على تبين ذلك، والتي سيأتي تفصيلها في العناصر الآتية:

أولا: التفريق بين المقاصد والوسائل

إن التمييز بين ما هـو مقصد للحكم الشـرعي مما هـو وسـيلة إليه أو وسيلة إلى وسيلته له أهمية كبيرة عند تطبيق الحكم؛ حتى لا يقع عند الموازنة والترجيح بين المصالح خلل يفضي إلى الإخلال بالمقصد الشرعي. ونظرا لهذه الأهمية يعتبر التمييز بين الوسائل والمقاصد عنصرا أساسيا في الاجتهاد التطبيقي لا يمكن أن يستغني عنه الفقيه عند تنزيل الأحكام [ ص: 94 ] على الوقائع، وسأتناوله في ثلاثة فروع: الأول: في تعريف الوسائل، والثاني: في أقسامها، والثالث: في خصائصها المميزة لها عن المقاصد.

تعريف الوسائل لغة واصطلاحا:

تعريف الوسائل لغة

الوسائل والوسل: جمع وسيلة، والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، والوسيلة: أخص من الوصيلة لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة.

وتأتي الوسيلة في اللغة لمعان عدة منها: المنـزلة عند الملك، والدرجة، والقرابة، والرغبة [5] .

تعريف الوسائل في الاصطلاح الأصولي

لعلماء الأصول اصطلاحات عدة في تعريف الوسائل أهمها:

1 - الاصطلاح العام: وهو اعتبار الوسائل بمعنى: «الطرق المفضية إلى المصالح والمفاسد» [6] . وهذا التعريف يتفق مع المعنى اللغوي للوسائل، ومن ثم فالوسائل في اصطلاحها العام تمتد لتشمل:

أ - الطرق المؤدية إلى المصالح؛ كالأسباب والشروط الشرعية.

ب - الطرق المؤدية إلى المفاسد؛ كالحيل الباطلة والذرائع المؤدية إلى الحرام.

2 - الاصطلاح الخاص للوسائل: «وهي المسالك المفضية إلى تحقيق المصالح الشرعية». ويعبر عنها ابن عاشور بقوله: «هي الأحكام التي [ ص: 95 ] شرعت؛ لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل؛ إذ بدونها قد لا يحصل المقصد أو يحصل معرضا للاختلال والانحلال» [7] .

والملاحظ في هـذا الاصطلاح الخاص للوسائل ما يلي:

أ - إن فيه تقييدا للمعنى اللغوي للوسيلة ليقصرها على الوسيلة المؤدية للمصلحة فقط.

ب - الوسيلة في اصطلاحها الخاص تقابل الذريعة بمعناها الخاص، والذي قـال عنه ابن تيمية : « والذريعة ما كانت وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عـبارة عما أفضـت إلى فعـل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم» [8] .

والوسائل بمعناها الخاص تمتد لتشمل «كل ما يتوقف عليه تحقيق المصالح الشرعية؛ من لوازم وشروط وأسباب وانتفاء موانع، ويدخل فيها أيضا ما يفيد معنى؛ كصيغ العقود وألفاظ الواقفين في كونها وسائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه» [9] .

أقسام الوسائل باعتبار قربها من المقاصد:

تنقسم الوسائل من حيث قربها من المقصد الشرعي إلى قسمين: وسائل المقاصد، ووسائل إلى وسائل المقاصد. [ ص: 96 ] وقد فصل العز بن عبد السلام هـذين القسمين فقال: «أحدهما: وسيلة إلى ما هـو مقصود في نفسه؛ كتعريف التوحيد، وصفات الإله، فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد، والتوسل إليه من أفضل الوسائل.

والقسم الثاني: ما هـو وسيلة إلى وسيلة؛ كتعليم أحكام الشرع، فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هـي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هـي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد» [10] .

قال تعالى: ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) (التوبة:120) .

«فأثابهم على الظمأ والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم؛ لأنهما حصلا بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هـو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى وسيلة» [11] .

خصائص الوسائل المميزة لها عن المقاصد:

لتجنب الخلط بين الوسائل والمقاصد عند تطبيق الأحكام الشرعية والتشوف إلى تحصيل غاياتها ينبغي معرفة ما للوسائل من خصائص معينة للمجتهد في التطبيق على التمييز بين ما هـو من قبيل الوسائل وما هـو مقاصد في ذاته، ومن ثم فإن أهم ما تتميز به الوسائل ما يلي: [ ص: 97 ] 1 - نسبية الوسائل من حيث كونها وسيلة باعتبار ومقصد باعتبار آخر، قال الشاطبي : «والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها» [12] . وذلك كالحفاظ على المال فهو وسيلة إلى الحفاظ على الكليات الأخرى، وهو مقصد يتوسل إليه بالعمل والاستثمار بشتى الطرق المشروعة.

ومؤدى هـذا كون الوسائل غير مقصودة لذاتها، بل لإفضائها إلى مقاصد مطلوب تحقيقها «وقد تقرر أن الوسائل -من حيث هـي وسائل- غير مقصودة لأنفسها وإنما هـي تبع للمقاصد؛ بحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث»

[13] .

2 - إن اعتبار الوسيلة مشروط بعدم عودها على المقصد بالإبطال، وبطلان الوسيلة لا يلزم منه بطلان المقصد. ومثال الأول «أن المصلي إذا لم يجد ساترا صلى على حالته، وسقط عنه ستر العورة؛ وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها فلا يصح اعتبارها» [14] .

ومثال الثاني: لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص لم يبطل أصل القصاص. وأقرب الحقـائق إليه الصفة مع الموصـوف، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف، كذلك ما نحن فيه، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك [ ص: 98 ] ركن من أركان الماهية، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل. وينخرم الأصل بانخرام شيء من قواعده» [15] .

وبناء على هـذا فإن الوسائل تسقط بسقوط مقاصدها؛ لكون «سقوط اعتبار المقصود يوجب سقوط اعتبار الوسيلة» [16] ؛ إذ هـي بالنسبة للأصل كالصفة مع الموصوف، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف، «فلا يمكن والحال هـذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها، وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على شعر من لا شعر له (عند التحلل من الإحرام) ». [17]

3 - إن الوسائل دون المقاصد رتبة: ويشهد لهذا قول العلماء: « مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسـائل أبدا » [18] ، وقولهم: « التابع لا يتقدم المتبوع كالإمام مع المأموم » [19] .

ونظرا لنـزول مرتبة الوسائل عن مرتبة المقاصد حصل التساهل في حكم الوسائل فمضى القول بأنه: «يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد ، ومن ثم جزم بمنع توقيت الضمان وجرى في الكفالة خلافه؛ لأن الضمان التزام للمقصـود، وهو المال، والكفالة التزام للوسيلة، ويغتفر في الوسـائل ما لا يغتفر في المقاصد» [20] ، و «يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها» [21] . [ ص: 99 ]

ثانيا: الموازنة بين المصالح والمفاسد

لقد سبق بيان أن درء المفاسد وجلب المصالح هـو مقصود الشارع الأعظم، وهذا المقصد محل اعتبار الشارع في تنـزيل الأحكام على الوقائع، بيد أن حدوث الوقائع تكون المصالح فيه مشوبة بالمفاسد؛ بحيث لا يكون فعل في الوجود أبدا خالص المصلحة أو المفسدة؛ إذ «المصالح الخالصة عزيزة الوجود»

[22] . فالأمر عائد إلى الترجيح بين طرفي المصلحة والمفسدة، الحاكم على الأفعال بحسب الغلبة، «فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب؛ فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة، فإذا رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة. وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة على ما جرت به العادات في مثله» [23] .

ونسبة المصلحة والمفسدة ليست مطردة في الفعل بل مختلفة ومتغيرة بحسب الأفعال، ولاعتبار اختلاف الزمان والمكان والشخص دور بارز في الموازنة بين النفع والضرر. فقد تتحقق مصلحة الشارع في فعل من الأفعال في إطار زماني ومكاني ما، في حين يرتفع هـذا التحقق إذا اختلف هـذا الوضع ويئول الأمر إلى مفسدة، ومن ثم نجد حرص العلماء على مراعاة اختلاف العوائد والأعراف في الفتوى والحكم والقضاء، والاجتهاد لكل [ ص: 100 ] واقع بما يحقق مقصد الشارع فيه، وقد قرر الإمام القرافي هـذا في قوله: «إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هـو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة» [24] .

ونجد الإمام الشاطبي يضرب لذلك مثلا بـ: «ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح» [25] .

وكما تتبدل الأعراف والعادات باختلاف الأمكنة فهي كذلك باختلاف الأزمنة، وهذا يتطلب التحقق من حصول المقصد الشرعي عند إجراء الحكم على الأفعال تبعا لتغير الزمان والمكان؛ ولذلك نجد الإمام القرافي يؤكد على هـذا الجانب المهم فيقول: «فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تجبره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتابك، فهذا هـو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا [ ص: 101 ] ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين». [26]

أما اعتبار اختلاف الأشخاص فتبرز أهميته في كون تنـزيل الحكم على شخص ما محققا لمقصد الشارع، في حين يعود في تنـزيله على شخص آخر بالنقض على مقصد الشارع؛ لاختلاف خصوصيات الشخص وأحواله وظروفه، فإذا كان مقصد الشارع إلزام المكلف بالوسط في سلوكه؛ لإفراطه أو تفريطه، فإن سنن التشريع اعتماد «طرف التشديد حيث يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين، وطرف التخفيف يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد» [27] .

وقد حاول الإمام ابن عاشور وضع ضوابط لوصف فعل ما بكونه مصلحة أو مفسدة فبينها في خمسة، خلاصتها:

1 - أن يكون النفع أو الضر محققا مطردا، فالنفع المحقق مثل الانتفاع باستنشاق الهواء، وبنور الشمس، والتبرد بماء البحر أو النهر في شدة الحر، مما لا يدخل في الانتفاع به ضر غيره. والضر المحقق مثل حرق زرع لقصد مجرد إتلافه.

2 - أن يكون النفع أو الضر غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء، بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل. وهذا أكثر أنواع المصالح والمفاسد المنظور إليها في التشريع؛ مثل إنقاذ الغريق مع ما فيه من مشقة للمنقذ، بيد أنها لا تقارن مع مصلحة إنقاذ الغريق. [ ص: 102 ] 3 - أن لا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وعدم حصول الفساد؛ مثل شرب الخمر فقد اشتمل على ضر بين وهو إفساد العقل وإحداث الخصومات وإتلاف المال، واشتمل على نفع. إلا أننا وجدنا مضاره لا يخلفها ما يصلحها، ووجدنا منافعه يخلفها ما يقوم مقامها.

4 - أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساويا لضده معضودا بمرجح من جنسه؛ مثل تغريم الذي يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه، فإن في ذلك التغريم نفعا للمتلف عليه وفيه ضرر للمتلف وهما متساويان، ولكن النفع قد رجح بما عضده من العدل والإنصاف الذي يشهد أهل العقول والحكماء بأحقيته.

5 - أن يكون أحدهما منضبطا محققا والآخر مضطربا؛ مثل الضر الذي يحصل من خطبة المسلم على خطبة أخيه، ومن سومه على سومه، الواقع النهي عنهما في حديث الموطأ؛ فإن ما يحصل من ذلك عند مجرد الخطبة والتساوم قبل المراكنة والتقارب ضـرر مضطرب لا ينضـبط ولا تجده سائر النفوس، ولو أعمل ظاهر الحديث لعاد بالضرر على النساء وأهل السلع، ومن ثم فاعتماد المراكنة شرطا للمنع، هـو المعتمد [28] .

ثالثا: الموازنة بين مقصد التكليف وقصد المكلف

إن الغاية من تنـزيل الحكم الشرعي على الوقائع هـو تحقيق مقصد الشارع منها؛ إذ على المكلف أن يجري على هـذا المنهج في أفعاله وتصرفاته، وأن لا يقصد مخالفة قصد الشارع؛ لكونه خلق لعبادة الله تعالى وخلافته، [ ص: 103 ] فلا يقصد مخالفة قصد معبوده، ومهمة الاستخلاف إجراء أحكام الشارع ومقاصده مجاريها، فإذا ما تبين قصد المكلف تعطيل تحقيق هـذه المقاصد فإنه يعامل بنقيض القصد الفاسد، ويكون عريا عن إجرائها عليه؛ إذ «كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع من أصله» [29] ، وتبعا لذلك «فكل من ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل» [30] .

أما بطلان المناقض للشريعة فلكون المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فمخالفتها مجرد للأفعال المخالف بها من جلب المصالح ودرء المفاسد.

أما كونه ابتغى في الشريعة ما لم توضع له، مناقضا لها، فيبينه الشاطبي من وجوه، أبرزها:

- أن حاصل هـذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشرع حسنا فهو عند هـذا القاصد ليس بحسن، وما لم يره الشارع حسنا فهو عند المكلف حسن، وهذه مضادة.

- أن الأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة،

وقد قال تعالى: ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) (النساء:115) . [ ص: 104 ] - أن هـذا القاصد مستهزئ بآيات الله؛ لأن من آياته أحكامه التي شرعها،

وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها: ( ولا تتخذوا آيات الله هـزوا ) (البقرة:231) .

والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجله [31] .

ومن أبرز ما يندرج في هـذا الباب ما يعرف بالحيل الشرعية، التي يقدمها أصحابها بقصد إبطال مقصد الشارع والتنصل من التكاليف.

ولما كانت قصود المكلفين قد تأتي هـادمة لمقصد الشارع فإن على المجتهد في تنزيل الحكم الشرعي على أفعال المكلفين تبين قصودهم ومدى موافقتها لمقصد الشارع؛ لإمضاء الحكم عليها، أو مخالفتها له؛ للإحجام عن ذلك.

غير أن تبين مقاصد المكلفين لما كان أمرا خفيا موكولا إلى الله تعالى، العالم بخفايا النفوس لم تتفق آراء الفقهاء على طريق أو وسيلة إثبات الباعث غير المشروع.

فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي وغيرهم إلى أن مجرد الـنية -ولو دعمت بالقرائن- لا تؤثر في الفعل أو التصرف؛ صحة وفسادا، بل لا بد أن يكون الباعث مصرحا به في صلب العقد، ومعبرا عنه بنص قاطع، غير أن أبا حنيفة أجاز أن يستخلص الباعث من طبيعة محل العقد، إذا أمكن، وعلى ضوء ذلك يحكم على العقد بالصحة أو البطلان، حسب الأحوال.

بينما ذهب المالكية والحنابلة إلى أن القرائن تكفي في إثبات الباعث «قضاء» [32] . [ ص: 105 ] ومذهب المالكية إقامة المظنة مقام المئنة احتياطا وتحرزا في العمل بأحكام الشريعة؛ لصون مقاصدها من الانخرام، وهذا ما يقرره الشاطبي حيث يقول في بيع العينة على سبيل المثال: «ولكن هـذا -أي: منع بيع العينة- بشرط أن يظهر لذلك قصد، ويكثر في الناس بمقتضى العادة» [33] .

وهكذا فكثرة الوقوع معتبرة عند المالكية للاستدلال على الباعث غير المشروع؛ إذا فشا التحايل على أحكام الشريعة في تصرف معين في المجتمع «بناء على كثرة القصد وقوعا، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه؛ لأنه من الأمور الباطنة، لكن له مجال هـنا وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هـو مظنة ذلك. فكما اعتبرت المظنة وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة؛ لأنها مجال القصد» [34] .

وذلك «لأن الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتـحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة، فإذا كان هـذا معلوما على الجملة والتفصيل، فليس العمل عليه ببدع في الشـريعة، بل هـو أصـل أصولها، راجـع إلى ما هـو مكمل؛ إما لضروري أو لحاجي أو لتحسيني» [35] .

وخلاصة القول: إن الموازنة بين مقصد الشارع وقصد المكلف عائدة في الثاني إلى النظر فيما يتبدى من علامات وأمارات وقرائن تكشف عن مقصد المكلف، فيجري الحكم تطبيقا بحسب هـذا الميزان، فما كان موافقا لمقصد الشارع أمضي، وما عاد عليه بالنقض وعلى المصلحة الشرعية بالإبطال أبطل. [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية