المبحث الثاني: الشورى بين المبدأ والتطبيق
أهمية الشورى في الإسلام
الشورى مبدأ تكويني في النظام التشريعي والسياسي الإسلامي، وهي خصيصة من الخصائص التي ينبغي أن تتميز بها الأمة المسلمة،
يشهد لذلك قولـه تعالى: ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) (الشورى:38) .
ووجه الاستدلال أن القران في النظم يوجب القران في الحكم، فقد قرن الله سبحانه وتعالى الشورى بركنين من أركان الإسلام: الصلاة، والزكاة. مما دل على أن الشورى ركن من أركان الحكم في الإسلام.
وعبر القرآن عن صفة الشورى بين المسلمين بالجملة الاسمية لثبات هـذه الحقيقة ورسوخها واستقرارها وتأكيدها، وجاءت مجالات الشورى عامة غير مقيدة لتشمل كل شئون المسلمين.
وحول هـذه المعاني يقول سيد قطب رحمه الله: «ومع أن هـذه الآيات مكية، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، فإننا نجد فيها هـذه الصفـة، مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليه أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها إفرازا طبيعيا للجماعة» [1] . [ ص: 147 ] وقد كانت الشورى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السياسة والحكم، وقد عقد الإمام البخاري في كتاب: الاعتصام، في جامعه الصحيح بابا للشورى، وجعل للباب ترجمة طويلة في فقه أحاديث الشورى؛ ومن ذلك قولـه رحمه الله: ( وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لأمته وعزم قالوا: أقم. فلم يمل إليهم بعد العزم، وقال: لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله. )
«وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين، ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله، وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره» [2] .
ثم إن الولاية العامة من أعظم فرائض الدين، والشورى سبيلها بالنص، ومن المقرر شرعا أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهي أساس مشروعية الولاية العامة ولزومها.
وأما في الاجتهاد التشريعي فإن الشورى مبدأ، غايته تحقيق «التعاون» بين جهاز الحكم في الدولة وممثلي الأمة من أهل الحل والعقد، والتعاون واجب بالنص؛ رعاية لشئون الأمة، وتحقيقا لمصالحها، وتمكينا لهيبتها، وإقامة لشرع الله فيها.
والشورى بما تضم في مجلسها من الكفاءات المتخصصة وأولي الخبرات [ ص: 148 ] العلمية التي صقلتها التجارب وسيلة لتحقيق المصلحة والعدل، وكلاهما واجب، فالوسيلة ينبغي أن تكون واجبة بوجوب غايتها، كما قدمنا [3] .
أولا: الشورى بين الإلزام والإعلام
اختلفت كلمة الفقهاء قديما وحديثا في مدى إلزامية نتيجة الشورى إلى قولين رئيسين:
الرأي الأول: أن الإمام مخير في الأخذ بنتيجة الشورى أو رفضها؛ وذلك لأن الشورى ما هـي إلا للاستنارة بآراء وأفكار «الغير»، وما على الأمة إلا السمع والطاعة للحاكم الشرعي، ما دام يعمل وفق ما أداه إليه اجتهاده، إذا كان مجتهدا، ورأى المصلحة في ذلك. ومبنى وجهة النظر هـذه:
- أن الحاكم ينبغي أن يكون مستكملا شروط الرئاسة: عدالة، وثقة، واجتهادا وغيرها، مما يمكنه من حيازة تأييد الأمة وأهل الحل والعقد فيها.
- أنه لم يخالف نصا شرعيا، ولا مقصدا كليا.
واستدلوا على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، وعمل الخلفاء الراشدين، ومنها:
قولـه تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (آل عمران:159) . [ ص: 149 ] فقولـه تعالى: ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) (آل عمران:159)
يفيد أن الأمر متروك في نهاية المطاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن شـاء عمل بما أشـير عليه، وإن شـاء لم يأخذ به؛ لعدم وجاهته لديه.
جاء في تفسير الطبري للآية: «فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك على ما أمرناك به، وافـق ذلك آراء أصحـابك وما أشـاروا به عليك أو خالفها»، «فإذا عزمت على أمر جاءك مني أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك فامض على ما أمرت به على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك» [4] .
وفي فتح القدير للشوكاني: «أي إذا عزمت عقب المشاورة على شيء واطمأنت له نفسك فتوكل على الله في فعل ذلك» [5] .
ويقول الزمخشري : «فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، فإن ما هـو أصلح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا من تشاور» [6]
وهذا يعني أن الاستشارة من قبل الإمام ما هـي إلا بقصد الاستنارة بالرأي الآخر والاستبيان فقط، وأن رأي الأغلبية أو الجماعة المستشارة [ ص: 150 ] ليس له أي إلزام قانوني مطلقا.
كما يستند القائلون بعدم إلزامية الشورى للحاكم إلى أدلة مستقاة من السنة الفعلية ومنها صلح الحديبية ، وأسرى بدر، فقد أمضى الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش رغم معارضة المسلمين الشديدة في أمور كثيرة.
أما الأدلة المستفادة من السوابق التاريخية لسير الراشدين رضي الله عنهم ، فمنها:
1 - " مخالفة الصديق رضي الله عنه لجمهور المسلمين بعدم إنفاذ جيش أسامة ، فضلا عن رفضه القاطع لطلبهم تأمير غيره ممن هـو أسن منه، قائلا: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة» "[7] . " فقال بعض الأنصار لعمر : قل له فليؤمر علينا غير أسامة . فلما ذكر له ذلك قال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم » " [8] .
وهذا الحادث كما يقول أصحاب هـذا الرأي «شاهد بألفاظه وعباراته وتشبيهاته على عدم إلزامية الشورى [9] .
وقد استشار الفاروق رضي الله عنه المسلمين في سواد العراق، فكان رأي الأغلبية أن يقسمه بين المسلمين، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وبلال وكثير من علماء الصحابة، فلم يلتفت عمر إلى رأي الأغلبية، بل أمضى الرأي الذي كان يرى أنه الحق، وجادل من دونه ثم نفذه، وذلك بترك [ ص: 151 ] السواد في أيدي أهله، ودفع الخراج على أراضيهم والجزية على رءوسهم. وهكذا لم يلتزم الفاروق بقول الأغلبية، بل أمضى رأيه [10] .
ويجزم بعض المعاصرين بعدم تمتع رأي أهل الشورى بأية قوة إلزامية قانونا لرئيس الدولة؛ لأن الخليفة له «أن يخالف أعضاء مجلس الشورى كلهم، ويقضي برأيه» [11] ، فهو صاحب الصلاحية في إضفاء الشرعية على القوانين؛ ولأنه لا يمكن لأغلبية بالغة ما بلغت أن تجعل لرأي معين صفة الإلزام [12] .
القول الثاني: يرى أصحابه إلزامية الشورى للحاكم، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1 - قولـه تعالى: ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ) (آل عمران: 159) ،
وفيها يقول الشيخ رشيد رضا : «فإذا محص الرأي وظهر فانزل على حكم الأغلبية واعزم عليه، واعتمد على الله في التنفيذ» [13] . ثم إن الأمر في الآية يفيد الوجوب؛ ابتداء وانتهاء، ولا قرينة صارفة له عن ذلك.
2 - قولـه تعالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى:38) ،
فقد جعلت هـذه الآية الشورى خصيصة للمسلمين؛ مثل الصلاة والزكاة، وهما واجبتان، وقد اقترنت الشورى بهما في النظم، والقران في النظم يوجب [ ص: 152 ] القران في الحكم، وإلا لم يكن لهذا الاقتران من معنى ولا مناسبة
[14] .
ولما كان التشاور بين المسلمين واجبا، ولا يحق لأحدهم الانفراد باتخاذ القرارات، فمقتضى الآية يفيد وجوب الالتزام بما ترى الأغلبية، وإلا كانت الشورى أمرا صوريا، وهذا مناف لمقصد الشارع، وهادم لأصل تكويني من مكونات البنية السياسية لمؤسسة الحكم في الإسلام، فضلا عن كون الصورية ضربا من العبث نزهت الشريعة عنه؛ لكونها غائية معللة.
وكانت الشورى منهجا للنبي صلى الله عليه وسلم في السياسة والحكم فيما لم يرد فيه وحي؛ شحذا لهمم الصحابة وتربية لهم عليها؛ ومن ذلك مشاورته الصحابة في الخروج لغزوة أحد ، وأخذه برأي أغلبيتهم وهو له كاره. ورغم ما آل إليه هـذا الرأي من هـزيمة عسكرية للمسلمين إلا أن الآية نزلت عقب ذلك مباشرة تحثه صلى الله عليه وسلم على مشاورة الصحابة، ويعقب الشيخ محمد الغزالي على ذلك قائلا: «ولما بدا رأي الكثرة خطأ، وأن الهزيمة لحقت بالمسلمين، بعد أن وقع ما وقع، نزل الأمر الإلهي يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : وإن كان الرأي الذي اتفقت عليه الكثرة خطأ، فاحذر أن تترك الشورى» [15] .
وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر في أسرى بدر، ومال إلى قول أبي بكر في أخذ الفداء بدل القتل الذي ارتآه عمر [16] .
وشاور الصحابة في حادث الإفك ، وفي النـزول في غزوة بدر، وغيرها من المواضع الكثيرة.
أما الصحابة -وخصوصا الخلفاء الراشدون- فلم يكونوا ليجتهدوا في [ ص: 153 ] السياسة والتشريع بمعزل عن أهل الرأي والمشورة، بل كان حكمهم واجتهادهم مؤسسين على مبدأ الشورى فيما لا نص فيه.
وقد كانت أبرز ظاهرة كما يقول د. توفيق الشاوي : «ميزة الشورى في عهد الراشدين؛ هـي تمتع الصحابة بقدر كبير من حرية المناقشـة والحوار والمعارضة، بصـورة لم تكن موجودة في عهد النبوة؛ لما كان يتمتع به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفة دينية، لم يتمتع بها الخلفاء الراشدون، مما جعل أصوات المعارضة عالية في عهد الراشدين، وكان الحوار بين الصحابة يجري بصورة علنية فيها أكبر قدر من الحرية والجرأة، تزيد كثيرا عما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم » [17] .
ومن أهم القرارات الجماعية الصادرة عن الشورى في عهد الراشدين:
1 - قرر اجتماع السقيفة كون نظام الحكم ودستور الدولة يقرر بالشورى الحرة؛ تطبيقا لمبدأ الشورى المنصوص عليه في القرآن الكريم. ولذلك كان هـذا المبدأ محل إجماع، وهذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في الإسلام، وهو الشورى الملزمة.
2 - تقرر يوم السقيفة أيضا أن اختيار رئيس الدولة وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى؛ أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضا ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة.
3 - تطبيقا للمبدأين السابقين، قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية. [18] [ ص: 154 ]
خلاصة وترجيح
بعد هـذا الاستعراض الموجز للرأيين الذين يتجاذبان موضوع إلزامية الشورى يمكن القول: إنه بغض النظر عن الاختلاف بين القولين السابقين في قضية إلزام الشورى أو إعلامها فقط، فإنه ينبغي عند تطبيق هـذا المبدأ التكويني في نظام الحكم الإسلامي إدراك ومراعاة جملة عناصر أهمها:
1 - تحقيق المناط بمفهومه العام والخاص، والذي يقتضي :
- التفريق بين الشورى التي هـي مبدأ واجب ابتداء وملزم انتهاء للحاكم مع مجلس شوراه، وبين النصيحة التي هـي مبدأ أخلاقي عري عن صفة الإلزام، والتي يعبر عنها البعض بـ: الاستشارة، أو استشارة الرأي [19] . وبناء على عدم التفريق بين هـذين المبدأين قد يبدو عند دراسة السوابق التاريخية للشورى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة نوع تضارب بينها، وليس أدل على الظن من استدلال الفريقين على مذهبيهما بالسنة وعمل الصحابة، خاصة الخلفاء الراشدين.
- الشورى تطلب عند غياب النص، وهي اجتهاد بالرأي فيما لا نص فيه، والمعتمد حينها ما أجمع عليه من قول أو ما كان رأيا أغلبيا، فإذا لاح للإمام برهان قوي يستند إليه فحينها له مخالفة مجلس شوراه، وعليه أن يحاورهم ويناقشهم الرأي حتى يقنعهم ويتوصلوا إلى رأي مشترك، وهذا ما يفهم من إصرار أبي بكر رضي الله عنه على قتال المرتدين، وموقف عمر في عدم قسمة أراضي السواد على الفاتحين. [ ص: 155 ]
2 - إن مبدأ الشورى ما هـو إلا وسيلة لتحقيق مقاصد شرعية مرسومة هـي تحقيق العدل والصلاح، والوصول إلى أفضل الآراء وأوفقها بمصلحة الأمة، ثم إن موضوع الشورى هـو (المصالح) العامة والفردية، التي استهدف الشارع تحقيقها في كل عصر في النظام السياسي الإسلامي، وهي متنوعة ومختلفة الطبيعـة ومتجددة، والشورى إنما هـي -في حقيقتها- بحث أهل الشأن والاختصاص في حقيقة هـذه المصالح، ومدى جديتها، ووزنها بميزان الشرع ومعاييره؛ ليعرف مدى مشروعيتها، تمهيدا لاستنباط أنسب الوسائل والنظم والتشريعات الاجتهادية؛ لتحقيقها فعلا على الوجه الأكمل والأمثل والأعدل، وهذا واجب إجماعا بلا مراء؛ لأنه غاية التشريع كله، فكانت الشورى واجبة بوجوب موضوعها هـذا [20] . إعمالا لقاعدة « ما لا يتم الواجـب إلا به فهو واجب »، والوسائل لها حكم المقاصـد كما هـو مقرر أصوليا.
ثم إن إلزامية الشورى ضمان لصون مقاصد العدل والمساواة والحرية في الأمة، والتي هـي من مقاصد الشريعة الأساسية؛ إذ إن الشورى إفساح لحرية الرأي والحوار البناء في قضايا الأمة، التي تقتضي إشراك الطاقات المبدعة لتحقيق مصالح الأمة؛ إرساء للعدل والمساواة بين أفرادها دون تحجيم ولا إلغاء. [ ص: 156 ]
3 - إن مآل الشورى المطلوب هـو الوصول إلى الرأي الأصوب والأصلح لتحقيق العدل والمساواة والحرية، اتقاء للتفرد بالرأي والاستبداد في الحكم، ومتى ما جرد هـذا المبدأ من صفة الإلزام القانونية فإنه يعني إلغاء لرأي الأمة التي ترتفع عن الخطأ والضلالة في اجتماعها، ويفسح المجال واسعا للحاكم ليستبد، وهذا هـو المآل الممنوع الذي يضاد مبادئ سياسة الحكم في الإسلام، وفي هـذا يقول محمد أسد : «إن معظم الحكام معرضون لارتكاب أفظع الأخطـاء إذا ما تركوا يتصـرفون في شـئون الأمـة كما يشاءون؛ ولهذا فإنه ليس من الحكمة مطلقا أن يتركوا وشأنهم، بل يجب أن يحكموا بالاشتراك مع الممثلين الشرعيين للأمة. إن هـذه عظة من أهم عظات التاريخ، وما تجاهلتها أمة إلا تعرضت لأفدح الكوارث، وأبشع النكبات» [21] .
وإن واقعنا المعاصر الذي يفصح عن سيطرة عقلية الاستبداد حتى بين العاملين للإسلام ودعاته، ثم تعقد مصالح الحياة وتشابكها، ودقة تخصصاتها مما يحيل على شخص واحد استيعابها والإحاطة بها يتطلب تضافر كثير من الطاقات والتخصصات المختلفة، في ظل عمل مؤسسي قائم على التخصص والتكامل؛ تشوفا لتحقيق الرأي الأصوب في مناخ حرية الرأي والتعبير والحوار، وبعيدا عن مصادرة الآراء، كل هـذا يرجح الرأي القائل بإلزام الشورى حفظا للأمة من شرور الاستبداد ونزغات الهوى. [ ص: 157 ]
ثانيا: كيفية إجراء الشورى
لقد اسـتقرت الشورى مبدأ عاما في النظام السياسي الإسلامي، ولم يقيد هـذا التشريع الشورى بنظام محدد، ولم يحصر إجراءها في وسائل وطرائق معينة، بل ترك أمر تنفيذها للاجتهاد المبني على دراسة الواقع المراد تطبيقها فيه؛ لتحقيق المقاصد المغياة منها.
وفي بيان وتأكيد هـذا المعنى تقاربت أقوال العلماء والباحثين الإسلاميين، يقول الشيخ شلتوت : «لم يضع القرآن ولا الرسول نظاما خاصا، وإنما هـو النظام الفطري، وقد ترك هـذا الجانب من غير أن يوضع له نظام؛ لأنه من الشئون التي تتغير فيها وجهة النظر بتغير الأجيال والتقدم البشري، فلو وضع نظام في ذلك العهد لاتخذ أصلا لا يحيد عنه من يجيئ بعدهم، ويكون في ذلك التضييق كل التضييق عليهم في ألا يجاروا غيرهم. فنظام الشورى من الأمور التي تركت نظمها دون تحديد؛ رحمة بالناس غير نسيان، توسعة عليهم، وتمكينا لهم من اختيار ما يتاح للعقول وتدركه البشرية الناضجة، وما دام المقصود هـو أصل المشورة والوصول إلى قوانين التنظيم العادل التي تجمع الأمة ولا تفرقها، والتي تعمر وتبني ولا تخرب وتهدم، فالأمر في الوسيلة سهل ميسور» [22] .
«وقد نص القرآن على مبدأ الشورى وطبق الرسول صلى الله عليه وسلم هـذا المبدأ، أما أسلوب التنفيذ فهذا متروك لاجتهاد أهل الرأي والفكر، حسبما [ ص: 158 ] يتراءى لهم على ضوء العصر الذي يعيشون فيه والمجتمع الذي ينتمون إليه. وآية (آل عمران) تضمنت المبدأ فقط وتركت أسـلوب التطبيق؛ لأنه مما ينبغي أن يترك للظروف والأحوال، وهكذا يكون واضحا أن أسلوب المشاورة ليس صيغة جاهزة تصلح لأن يؤخذ بها في كل زمان ومكان، وإنما هـو في الحقيقة يختلف من مجتمع إلى مجتمع حسب درجة التطور، ومن عصر إلى عصر حسب الاعتبارات والأوضاع فيه، فأسلوب التشاور ينبغي أن يكون متفقا مع حقيقة المرحلة الحضارية التي يبلغها المجتمع» [23] .
«لم يعين التشريع السياسي الإسلامي نظاما محددا للشورى السياسية في انتخاب رئيس الدولة، وما رسمه فقهاء السياسة المسلمون من أشكال لها وطرائق لتنفيذها إنما بمحض الاجتهاد بالرأي» [24] .
فيتضح من التقريرات السابقة أن كيفية إجراء الشورى قضية غير محسوسة، بل تركت طرائق تنفيذها لإرادة الجماعة المسلمة على الشكل الذي تراه محققا لمقاصدها، ومن ثم فإن كيفية إجرائها تقبل الصور والأشكال المختلفة التي تتناسب والتطور الحضاري للأمة في شتى العصور.
وإن المتأمل في السوابق التاريخية لفترة الخلافة الراشدة، التي تعد موطن القدوة باتفاق ليجد أن كل خليفة قد اختط له مسلك لتوليته، ومن ذلك [ ص: 159 ] أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اجتمع له الصحابة في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه، ثم حدثت البيعة العامة (الانتخاب) بعد رضا الأمة في المسجد.
أما عمر رضي الله عنه فقد رشحه أبو بكر للخلافة، ثم بايعته الأمة عامة؛ ولما طعن عمر رضي الله عنه عهد بأمر اختيار الخليفة لستة من كبار الصحابة ليختاروا أحدهم، ثم طرح اختيار عثمان رضي الله عنه على الأمة للبيعة.
" أما علي رضي الله عنه فيبين أن طرق التولية اجتهادية فيقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا عهدا نأخذ به في إمارة، ولكنه شيء رأينا من قبل أنفسنا، ثم استخلفأبو بكر رحمه الله وأقام واستقام، ثم استخلف عمر رضي الله عنه فأقام واستقام، حتى ضرب الدين بجرانه» " [25] .
وهكذا فإن اختيار أهل الحل والعقد لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة يعد ترشيحا له، أتبع بالانتخاب العام، أي البيعة الكبرى من الأمة في المسجد، أما استخلاف أبي بكر لعمر ثم عهد عمر لستة من الصحابة ليختاروا أرضاهم لديهم ولدى الأمة، كل هـذا يعد ترشيحا فقط، والقرار الأخير للأمة قبولا ورفضا.
وفي ترسيخ هـذا المعنى يقول أبو حامد الغزالي : «ولو لم يبايعه غير عمر وبقي كافة الخلق مخالفين، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه [ ص: 160 ] غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة، فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة، وانصراف القلوب إلى المشايعة» [26] .
ونتيجة لما تقدم فإن طرق الانتخاب الحديثة ليست محلا للرفض من وجهة النظر الإسلامية [27] ما دامت إعمالا لمبدأ الشورى وتحقيقا لمقاصدها.
وتفريعا على ما سبق، فإن أي إخلال بمبدأ الشورى في تولية الحاكم يفقد طرائقه حكم المشروعية، اللهم إلا نزولا عند الضرورة والتي تقدر بقدرها، وهذا ما لوحظ لدى العلماء المسلمين في إقرارهم بولاية الغلبة والسيف، وعدم الخروج عليهم درءا لمفاسد قدرت بأنها أكبر مما يطلب تحقيقه من مصالح، وفي هـذا يقول أبو حامد الغزالي : «وكذلك نقول في المستظهر بشوكته المطاع فيما بينهم، وقد شغر الزمان عن مستجمع لشرائط الإمامة ينفذ أمره؛ لأن ذلك يجر فسادا عظيما لو لم نقل به» [28] . [ ص: 161 ]