الفصل الرابع
المنهج المعرفي الإسلامي
وتدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات الإسلامية الأفريقية
واقع التعليم في أفريقيا المسلمة
وإشكالية تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية :- من المعروف أن الغرب، طيلة مراحل استعماره لأفريقيا ، قد ضيق من أفق التعليم، وقلل من فرص التحاق الأفارقة في حقوله المختلفة، ولم يعمل إلا على تأسيس عدد من المدارس والجامعات الرسمية والتبشيرية التي كانت تستهدف تدمير الخصوصيات الثقافية، وتحويل العقائد باتجاه التنصير، أو العلمانية ، وإعداد مجموعات من الموظفين لمساعدته في إدارة بعض شئون مستعمراته، وخدمة سياساته، وتدريب بعضهم كنخبة أو قيادات تابعة، لهذا لعب التعليم عبر تلك المراحل دورا كبيرا في تحطيم الإحساس بالهوية والكرامة، وأسهم في تشريب القيم الغربية في ذهنية ووجدان المتعلمين من الأفارقة، على النحو الذي كرس الشعور بالدونية والخضوع من جهة، وإعلاء القيم الذاتية والنفعية من جهة أخرى، فضلا عن قتل روح المبادرة، وإيجاد حالة من الازدواجية في الفكر والسلوك. وبكلمة واحدة: كانت [ ص: 135 ] التربية الاستعمارية وأساليبها تمثل أحد أوجه الصراع الحضاري، كما تعكس واقع المغالبة الاستعمارية
[1] .
يقول « نكروما » عن فترة التعليم الاستعماري في غانا : «كان علينا في نماذج ثقافتنا الخضوع إلى متطلبات مجالس الامتحان الإنجليزية، الأجنبية عنا، ولقد علمنا ودربنا أن نكون نماذج وضيعة دون الإنجليز، وصورا للضحك منها، عندما كنا نظهر بأدب أمام البرجوازي الإنكليزي أخطاءنا النحوية، وأنماطنا المعوجة التي كانت تخوننا كل مرة، ولم نكن سمكا ولا طيورا، وكنا ننكر معرفة ماضينا الأفريقي، وكنا نتعلم أن ليس لنا حاضر وأي مستقبل.
لقد تعلمنا أن نرى ثقافتنا وعاداتنا كبرابرة وهمج بدائيين، وكانت كتبنا الانكيليزية تعلمنا التاريخ والجغرافية الإنجليزية، وأساليب العيش الإنجليزية، والعادات الإنجليزية، والأفكار الإنجليزية والمناخ الإنجليزي، وكثير من هـذه المفاهيم لم تتغير منذ 1895م»
[2] .
كما كتب « أحمد سيكوتوري » يقول: « لقد تعلمنا، نحن المثقفين الأفريقيين، من مدارس الاستعمار تاريخ فرنسا ، وحروب الغال، وحياة جان دارك ونابليون ، وقرأنا أشعار لامارتين ، ومسرح موليير ، ودرسنا التنظيم الإداري لفرنسا ، كما لو كانت بلادنا الأفريقية دون تاريخ، ودون واقع جغرافي، ودون قيم، ودون أخلاق! [ ص: 136 ] وقد قدم الاستعمار لنا من العلم والثقافة القدر الذي يرى أنه يخلق منا آلات ترتبط مصالحها بعجلة الاستعمار، ولقد أراد المستعمرون للعلم الأفريقي أن يظل في سوية ثقافية منحطة، حتى يخرج تلاميذه على يديه أشد انحطاطا.
لقد أراد المستعمرون للمثقفين الأفريقيين أن يفكروا بديكارت وبرغسون ولم يسمح لهم التفكير في قيمهم وثقافتهم وتراثهم الأفريقي، لهذا لا يعرف كثير من شبابنا فلسفة المفكرين الأفريقيين أمثال الحاج عمر بن سعيد نال وأحمد ساموري توري ، وإذا استمر الأمر على هـذا النحو فلن نستطيع أن ننمي شخصيتنا الأفريقية، التي هـي الطريقة الوحيدة للنهضة في أفريقيا »
[3] .
لهذا قال « سيكوتوري »: بأن التعليم الذي أعطوه إيانا كان يتجه إلى إذابة شخصيتنا، وإضفاء الطابع الغربي عليها، بله إضاعة مدنيتنا وحضارتنا ونظراتنا الخاصة، الاجتماعية والفلسفية، وباختصار إنسانيتنا من أجل أن يخلق فينا المركبات المضاعفة التي تنتهي بنا إلى أن نصبح فرنسيين أكثر من الفرنسيين
[4] .
وإجمالا يمكن القول: بأن القيم والاتجاهات التي كان يتم غرسها في سياق المنهج التعليمي تقوم على إضعاف الذات، وتفتيت الهوية في مختلف مقوماتها، الدينية واللغوية والاجتماعية، ناهيك عن بث روح الفرقة، ومحاربة القيم المحلية، وبالتالي لم يكن التعليم يستهدف غير تكريس فقدان الثقة، والحيلولة دون امتلاك الوعي وحيازة الفاعلية. [ ص: 137 ]
وإذا كان هـذا هـو واقع التعليم العام، في المراحل الاستعمارية، وهذه هـي أهدافه، فإن المعرفة الإنسانية والاجتماعية التي كانت تقدم على الصعيد الجامعي لم تكن تختلف عن هـذه «المنهاجية» في أهدافها. أما المضمون أو المحتوى المعرفي فلا يخرج عن مسلمات العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية، ومفاهيمها، ونظرياتها، الأمر الذي جعل من الصفوة الجامعية أدوات لإعادة إنتاج الثقافة الغربية ورؤيتها نحو العالم.
ناهيك عن المعرفة الخاصة بالإنسان والمجتمع الأفريقيين، التي كانت تقدم على النحو الذي يجعل من المتعلم الأفريقي حافظا عن ظهر قلب «تعاليم» المنظرين الاستعماريين حول أفريقيا ، تاريخها، إنسانها، ومقدراتها، وما كانت وما ينبغي أن تكون
[5] ، وباختصار تقديم الإنسان والمجتمع في أفريقيا وفقا لتحكمات الرؤية المعرفية الغربية، وتحيزاتها، التي سبق أن عرضنا لها، الأمر الذي يقفل أبواب المبادرة ويحول دون التفكير العلمي المستقل.
وإذا كان النظام البريطاني يوصف بأنه الأفضل، قياسا إلى النظام الفرنسي، فيما يتعلق بأوجه النشاط التعليمي، إلا أنه على صعيد المنهجية لا يختلف عنه، فكلاهما لم يسهم بأي تقدم معرفي أو علمي من شأنه خدمة الإنسان والمجتمع في أفريقيا
[6] .
وأنه على الرغم من انتشار التعليم الجامعي، والتوسع فيه، في ظل مرحلة الاستقلال، إلا أن الوضع لم يتغير كثيرا على الصعيد المعرفي والمنهجي، حيث ظل الأفريقي في موقف التابع للعلوم الغربية ومناهجها، [ ص: 138 ]
بما تنطوي عليه من مسلمات ومناهج ونظريات، وبالتالي ظل التعامل معها كما لو كانت علوما «طبيعية» الأمر الذي يؤكد أن الاستقلال السياسي الذي نالته الدول الأفريقية المسلمة لم يتبعه استقلال ثقافي ومعرفي. فجامعة الخرطوم مثلا، ظلت تابعة للنظام التعليمي البريطاني مدة طويلة بعد الاستقلال، وظلت برامجها الدراسية تماثل وإلى حد كبير البرامج الدراسية المتبعة في جامعة لندن ، كما ظلت الإنجليزية لغة القاعات والمعامل
[7] حتى أن الباحث الأفريقي إذا ما أراد التعمق في دراسة مشكلة أفريقية لا يجد مراجع غير المراجع الأجنبية، ولا كتابا غير كتاب الأجانب، أكثر الأحيان
[8] .
إن العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي تقدمها الجامعات الأفريقية، هـي العلوم الغربية التي لا صلة لكثير من مضامنيها واتجاهاتها بالبيئة الأفريقية، والتي لا يمكن لأطروحاتها أن تخدم قضايا هـذه البيئة، لذا لا غرابة أن نرى اغتراب البحث عن الواقع الأفريقي عند الآلاف ممن يعدون الدراسات العليا، ناهيك عن مجاراة الدارس الأجنبي، دون التفكير بمنهجية أخرى أكثر ملائمة لمتطلبات الواقع الموضوعي والثقافي للبلد
[9] .
وإجمالا يمكن القول: بأن الجامعات والمعاهد الأفريقية، بما فيها الجامعات والمعاهد في أفريقيا المسلمة، ظلت تفتقر إلى البرامج المنبثقة عن الواقع والمعبرة عنه، سواء على مستوى المنهج أو على مستوى الاهتمامات، وقد شمل هـذا الأمر حتى الدراسات في حقلي الآداب والقانون، لأن الفكرة [ ص: 139 ] المسيطرة هـي أن العلم أجنبي الأصل
[10] .
ولكن مع ما تقدم لم تعدم الساحة الأفريقية ممن يعي حقيقة ما تنطوي عليه العلوم الغربية من مسلمات ومنطلقات مغايرة، ومن حقائق نسبية، فبعض المعنيين في البلدان الأفريقية بدأ يبحث عن منهجيات معرفية ومناهج تعليمية أكثر تعبيرا عن الثقافة والحقائق الأفريقية
[11] .. ولعل الأخذ بهذا الاتجاه في الإطار الأفريقي الإسلامي يجد مبرراته ودوافعه بشكل أقوى، بخاصة إذا ما وضع مشروع إسلامية المعرفة نصب العين، وتم إدراجه ضمن إعادة النظر في بناء المناهج التعليمية.