والفرق بين الغربة المعنوية والغرابة اللفظية :
غربة الدين وردت صفة «غرباء الدين والإيمـان» في قوله تعالى:
( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) (هود:116) .
وأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس ) [1] . وفي رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد : ( الذين يزيدون إذا نقص الناس من ذلك ) [2] ، ومعناه: الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك، وفي حديث الأعمش : ( النزاع من القبائل ) [3] وفي رواية أخرى ذكرها الأعمش: ( ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) [4] . [ ص: 33 ]
وروى الإمام أحمد ( من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحب شيء إلى الله الغرباء، قيل ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم، يجتمعون بعيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة ) [5] . ( وروى نافع عن مالك : «دخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هـلك أخوك؟ قال: لا، ولكن حديثا حدثنيه حـبيبي وأنا في المسـجد، فقال: ما هـو؟ قال: إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة ) [6] .
( وفي حديث آخر : « بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: وما الغرباء يا رسول الله ؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس ) [7] .
هذه أحاديث متعددة في الغربة والغرباء، فيها أن الغرباء مغبوطون، وهم لقلتهم في الناس سموا غرباء، والمؤمنون منهم غرباء، وأهل السنة [ ص: 34 ] غرباء، والداعون إلى السنة الصابرون على أذى المخالفين أشد غربة، والغرباء في المجتمع هـم الذين يصلحون إذا فسد الناس، والغرباء هـم الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك، والغرباء هـم الفرارون بدينهم، وهم الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا. فهؤلاء في الحقيقة أهل الله، لا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين بينهم الله عز وجل بقوله:
( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) (الأنعام:116) ،
فهؤلاء غرباء في الله ورسوله ودينه، وغربتهم شديدة وموحشة.
و قد صنف ابن القيم (ت751هـ) الغرباء إلى ثلاثة أنواع :
1- غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هـذا الخلق: وهي التي ذكر أهلها في الأحاديث السالفة، وهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هـو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فهو خفيف حفي، لا يشار إليه بالأصابع، قليل تراثه، قليلة بواكيه، رزقه كفاف وعبادته حسنة، مستمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها، قابض على الجمر حقا، وأكثر الناس لائم له، فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، وغريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، وغريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، وغريب في صلاته لسوء صلاتهم، وغريب في طريقه لضلال طرقهم، وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته.
2- النوع الثاني من الغربة غربة مذمومة: وهي غربة أهل الباطل بين أهل الحق يعرفون في أهل الأرض ويخفون على أهل السماء. [ ص: 35 ] 3- النوع الثالث: غربة مشتركة لا تحمد ولا تذم، وهي الغربة عن الوطن؛ فإن الناس كلهم في هـذه الدار غرباء، فإنها ليست لهم بدار مقام، ( وقد قال النبي لعبد الله بن عمر ، رضي الله عنه : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) [8] .
أما المغترب فهو كل من انفرد بوصف دون أبناء جنسه، أو هـو المتنحي عن الناس [9] ؛ فإنه غريب بينهم لعدم مشاركه أو لقلته. والاغتراب: انفراد عن الأكفاء بصفة أو حال، وهو أيضا النزوح عن الوطن [10] ، وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الغربة عن الأوطان أو غربة بالأبدان.
والدرجة الثانية: غربة الحال أو غربة بالأحوال والأفعال وهذا من الغرباء الذين طوبى لهم، وهو رجل صالح في زمن كثر فيه الأشرار، والحال الوصف الذي قام به من الدين والتمسك بالسنة. [ ص: 36 ]
والدرجة الثالثة: غربة الهمة، وهي غربة طلب الحق، وغربته أعلى الدرجات لأنه غريب في الدنيا والآخرة وغربته في قلبه، وشاهده قربه من الله وأنسه به وشدة شوقه إلى لقائه وفرحه. [11]
أما الغربة الشائعة، التي ذكرت في الدرجة الأولى، وهي الغربة عن الأوطان أو الغربة بالأبدان، فهي غربة بالمعنى الضيق المألوف؛ لأن الإنسان عندما يغادر بقعته الأرضية التي ولد فيها وعاش، وينـزح إلى بقعة أخرى فقد يشعر بالانقباض والوحشـة من هـذه، والشوق والحنيـن إلى تلك، وبما يشبه الجمر أو أشـد إيلاما. وهذه غربة تشترك فيها الكائنات الحية ولا يتفرد بـها الإنسان، ولكنها لا يلبث الزمان أن يلطف أوجاعها بالسلوان والنسيان.
أما ما يتفرد به الإنسان عن غيره من الكائنات، فهو ضرب من الغربة في وطنه، وأهله وذويه، وفصيلته التي تئويه، وأحيانا في عقر داره، فقد ينكر المرء سلوكا في أبنائه وعشيرته، وتعظم الغربة في حياته على قدر اتساع الخلاف بينه وبين غيره. والمعلوم أن الناس يعيشون بما يألفون لا بما يعرفون، وما قامت الألفة يوما مقام المعرفة، ولن تقوم. فلا عجب أن يكون الناس في رغد من العيش مستمر، ثم لا عجب أن يكونوا من ذلك الرغد في قلق مستمر، لا يستطيبون أمرا ولا يركنون إلى حال، والمخالف لهم غريب بينهم وهو يعلم ذلك، أما هـم فغرباء ولا يعلمون إنهم من الكون ومن أنفسهم في غربة دائمة. [ ص: 37 ]
وأشد أنواع الغربة: ما ذاقه الأنبياء والرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- من ألوان مرة سحيقة من الغربة، في أوطانهم وبين أقوامهم، عندما حملوا إليهم رسالة التوحيد التي تتنافى وتقاليدهم وعقائدهم، فنبذوا دعوتهم وراء ظهورهم، وحاربوهم وأكرهوهم على الهجرة، وما ذاقه الشهداء، فانتقلوا من دار الغربة إلى دار القرار، فكان استشهادهم شهادة منهم بغربتهم عن العالم الذي لفظهم، إذ حارب دينهم ونهب حقهم وانتهك عرضهم واستباح دماءهم.
أما الغرابة اللغوية: فهي غرابة بعض الألفاظ في نصوص القرآن والحديث وغموضها بالنسبة إلى عصور ما بعد التنـزيل، عندما ضعفت الملكات اللغوية، واحتاج أمر إبانة النصوص إلى وضع مؤلفات في شرح غريب القرآن؛ لقد عرف ابن الصلاح في مقدمته غريب الحديث بأنه: «عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة لقلة استعمالها» [12] ووصفه الزمخشري بأنه: «كشف ما غرب من ألفاظه واستبهم، وبيان ما اعتاص من أغراضه واستعجم» . [13]
وليس المقصود بالغرابة في الحديث ما يعارض الفصاحة والبيان؛ فقد وردت ألفاظ غريبة في الحديث النبوي، تشهد بفصاحة الرسول ومعرفته بلغات العرب؛ [ ص: 38 ] ( يخاطب وفد بني نهد ، فقال له: يا رسول الله؛ نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفد العرب بما لا نفهم أكثره، فقال : أدبني ربي فأحسن تأديبي، وربيت في بني سعد )
[14] . فقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلهجات بعض العرب التي لو سمعها غير أصحابها لعدوها من قبيل الغريب.
ولا تعني الغرابة في تلك الألفاظ التي خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وفودا من قبائل معينة، أن لغة الحديث غريبة في جملتها؛ ولكن المقصود أن ألفاظا مألوفة عند قبيلة هـي غير مألوفة عند قبيلة أخرى، فتوصف بالغرابة من هـذه الجهة. فالغرابة صفة في الألفاظ لا في الأحاديث، وهي كذلك بالنسبة إلى غير الناطقين بها عرفا وإلفا وعادة.
ومن أهم هـذه الكتب التي صنفت في غريب الحديث، كتاب «الفائق» للزمخشري [15] ، الذي اهتم بوجوه البلاغة النبوية في أثناء شرحه لغريب الحديث. ومن الأمثلة على شـرح الغريب في الحـديث النبوي: ما جاء في قوله عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم : النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر مجلسه " عن علي رضي الله عنه : مجلس حلم وحياء، وصـبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ " . [ ص: 39 ] لا تؤبن: لا تقذف ولا تعاب، يقال: أبنته آبنه، وأبنه أبنا وهو من الأبن، وهي العقد في القضبان، ومنه قوله في حديث الإفك: ( أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي ) ، ومنه " حديث أم الدرداء : «إن نؤبن بما ليس فينا فربما زكينا بما ليس فينا» "
كأن على رءوسهم الطير: عبارة عن سكونهم وإنصاتهم؛ لأن الطير إنما تقع على الساكن، قال الهذلي :
إذا حلت بنو ليث عكاظا رأيت على رءوسهم الغرابا
المكافئ: المجازي، ومعناه أنه إذا اصطنع فأثني عليه على سبيل الشكر والجزاء تقبله، وإذا ابتدئ بثناء تسخطه، أو لا يقبله إلا عمن يكافئ بثنائه ما يرى في المثنى عليه، أي يماثل به ولا يتزيد في القول...ومن أسباب الغرابة اللغوية في الحديث النبوي أن النبي كان يخاطب القبائل بألفاظها، واستعمل معهم ما يستعملون في كلامهم مما قد يغرب عـلى غيـرهم؛ وذلك ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحـدثهم بما يعلمون؛ فليس كلامه مع أهل قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ، ككلامه مع ذي المشعار الهمداني الذي وفد من تبوك ، وطهفة النهدي خطيب نهد ووافدها إلى النبي، والأشعث بن قيس الذي وفد في ستين راكبا من اليمن ، ووائل بن حجر الكندي ، وغيرهم. [16] [ ص: 40 ] فمما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لوافد هـمدان ، لما وفد عليه ذو المشعار الهمداني مالك بن نمط : إن لكم فراعها [17] ووهاطها [18] وعزازها [19] ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها [20] ، ويرعون عفاءها [21] ، لنا من دفئهم [22] وصرامهم [23] ، ما سلموا بالميثاق والأمانة [24] ، ولهم من الصدقة [25] الثلب [26] والناب [27] والفصيل [28] والفارض [29] والداجن [30] والكبش الحوري [31] ، وعليهم فيها الصالغ [32] والقارح [33] » [34] . [ ص: 41 ]
ومن قوله لنهد حين شكا وافدها للنبي ما أصاب قومه من القحط: ( اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها [35] ، وابعث راعيها في الدثر [36] وافجر له الثمد [37] ، وبارك له في المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا، لكـم يا بني نهد ودائـع الشرك [38] ، ووضائع الملك [39] ، لا تلطط في الزكاة [40] ، ولا تلحد في الحياة [41] ، ولا تتثاقل في الصلاة ) [42] ..
فقال رجل من بني سعد ، هـو عطية السعدي : «فكلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا» [43] فقوله: « فكلمنا رسول الله بلغتنا»، يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 42 ] لم يكن يقتصر في حديثه على ألفاظ قبيلة بعينها، ولكنه يخاطب كل شخص بحسب ما يعرفه وما يتداوله من ألفاظ قد يغرب معناها على غيره من المخاطبين.
وهذا مثال على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بلسان قومه من القبائل المختلفة، وأنه من البلاغة التي هـي إفهام للكلام، وإبلاغ للمراد، ومطابقة المقال لمقتضى الحال. فأنت ترى فيما مر من الأحاديث التي خوطبت بها الوفود، كلاما فصلا، واعتمادا على جمل مقتضبة، يغني قليلها عن كثيرها. وظهر لك أن غريب الحديث، وإن عرفوه بأنه ما غمض من ألفاظ الحديث واستبهم، واعتاص واستعجم؛ فإنه يشهد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفته بلغات العرب، وأنه مما أدبه به ربه فأحسن تأديبه [44] . لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عربيا، وكذلك جمهور أصحابه وتابعيـهم، « فوقع في كلامـهم من اللغة ما كان مشهورا بينهم، ثم وقعت مخالطة الأعاجم، ففشا اللحن، وجهل جمهور الناس معظم اللغة، فافتقر ذلك الكلام إلى التفسير». [45] [ ص: 43 ]