مفهوم غربة العربية
إذا عرضنا صفة الغربة في الدين والإيمان على اللسان العربي الذي نزل به الذكر الحكيم ونطق به خاتم المرسلين في بيانه الكريم، فإننا نصادف أن لغة التشريع أصابها ما أصاب التشريع من غربة؛ لأنها الناطقة بلسانه والمعربة عن أصوله ومعانيه. وغربة اللسان ممدوحة كغربة الدين؛ لأنها لغة الغرباء الفرارين بدينهم الصالحين المصلحين في زمن الإفساد.
لقد بدأ اللسان مع بداية الإسلام غريبا، وصار إلى غربة عندما هـجره الناس. ولقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم هـؤلاء الغرباء الفرارين بدينهم النزاعين من القبائل بأنهم الذين يحيون سنته ويعلمونها الناس، ومن سنته الطاهرة بيانه الكريم ولغته الشريفة، وكل ما نطق به ووصلنا بطريق الروايات المتواترة والأسانيد الصحيحة، هـو من أجود الكلام وأبلغه وأفصحه.
فالفصاحة سنة نبوية كريـمة يلزم إحـياؤها واتباعها كباقي السنن، ولا يقتصر أمر تعلمها على رجال الأدب والعلم والفكر والتعليم والإعلام، إنها سنة شريفة تقتضي من المسلمين اتباعها، تأسيا بالنبي الكريم، وتعبيرا عن المحبة والوفاء
[1] [ ص: 44 ] فيكون لتعلم الفصاحة وتعليمها أساس ديني تستند إليه اللغة العربية، وعمق إيماني، ووفاء للسنة، ومحبة لصاحبها، ولا تظل محصورة في ربقة فرض الكفاية الذي يسقط بإقامة بعضهم له عن الباقين، فليس أحد من المسلمين متحللا من النطق بلغة العرب في حياته اليومية والعلمية
[2] .
أما الدوارج واللهجات العامية فهي أمور محدثات ولغات مبتدعات، وما زال العلماء يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات وهو «التكلم بغير العربية » إلا للحاجة، كما نص على ذلك
مالك والشافعي وأحمد ، بل قال
الإمام مالك : « من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه » ، مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام؛ فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي، وبعث به نبيه العربي، فصار حفظ شعار العربية من تمام حفظ الإسلام
[3] .
وفصاحة الحديث النبوي سنة عملية لا تقتصر على عهد النبوة، ولكنها تمتد إلى مساحات شاسعة من تاريخ العربية في تطورها عبر العصور إلى يومنا هـذا، وتجد مهدها في القرآن الكريم الذي هـو كتاب معجز في بلاغته ونظمه وفصاحته، ولكنه مقياس عال ونموذج سام والتحاق لملكة المتكلم اللغوية بفصاحة القرآن الكريم في صورها وملامحها المتنوعة، وهي الباب المفضي
[ ص: 45 ] إلى إدراك الأحكام وتمثل المعاني والمبادئ التي نزلت بلسان العرب. فينبغي للمتكلم من هـذا الوجه أن يحمل نفسه على ممارسة تلاوة القرآن الكريم باللسان الذي به أنزل وبالفصاحة العالية التي بها نطق الأولون؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم من تفضيل إعراب القرآن والحض على تعليمه وذم اللحن وكراهيته ما وجب به على قراء القرآن الكريم أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه؛ فقد روي
( عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ) [4] ، " وروي عن
عمر رضي الله عنه أنه كتب: أن تعلموا الفرائض والسنة واللحن كما تعلمون القرآن. " واللحن هـو انتحاء سمت العرب في كلامها
[5] ، وروي " عن
عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال: جردوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يعرب "
[6] ، وقيل
للحسن في قوم يتعلمون العربية، فقال: أحسنوا، يتعلمون لغة نبيهم.
والحديث النبوي الشريف وجه عملي للقرآن الكريم، وتطبيق متفوق لبلاغته وفصاحته ونسقه وبيانه، وله قدرة عالية على الوضع والتشقيق للألفاظ، وهو يغترف من معين القرآن، ويستجيب للحاجات اليومية
[ ص: 46 ] المتجددة ومطالب الحياة ومثارات المقام. فينبغي للمسلم أن يغلب الفصاحة النبوية في سلوكه الكلامي على لهجته المحلية، ويقوي إحساسه بها، ويجاوز واقع الضعف والاستغراق في الخصائص المحلية؛ فإن إحساس الفرد اليوم باللغة ضعيف بالفطرة، والناس لا تقرأ إلا عناوين الأخبار في الصحف السيارة والمقالات الشاردة، إنه إحساس أجنبي مشوب بلوثة العجمة والعامية، وما زال الإحساس بالفصاحة يتراجع حتى حصرت اللغة في دائرة ضيقة، وحلت في المحل الأدنى بعد أن كانت لغة الأمة الأم ورباطها الوثيق الذي يمنع عنها التفكك. فاللغة العربية الفصحى تستطيع أن تكون لغة التخاطب اليومي في البلاد العربية بدلا من اللهجـات العامـية؛ لأن فيها ما يقرب بين المتكلمين، بل هـي لغة القرآن الكريم ولغة الحديث النبوي المبين عن القرآن الكريم، ولفظ القرآن مرتبط أشد الارتباط بعقيدة المسلم وعباداته وتشريعه واقتصاده وعلمه وسائر أعماله ومعاملاته، فلا يكاد يوجد شيء في حياة المسلم إلا وله في القرآن الكريم هـدي يتبع وأحكام تستنبط، وله في الحديث تفصيل ما أجمل في القرآن، وبيان ما أبهم، وإيضاح كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد والجماعة.
وهناك أحاديث كثيرة لا تكاد تحصى جمعت بين الإيجاز والجمع في الكلم، بلاغة، وبين الدلالة على مواقف من الحياة الاجتماعية النابضة المتحركة، دلالة، وبين تنوع أنماط الجمل، لغة وتركيبا. وكل هـذه المزايا البيانية والبلاغية، والدلالية المقامية، واللغوية التركيبية التي يزخر بها
[ ص: 47 ] الحديث قيم عالية تحملها اللغة العربية وينفعل بها المتكلم، وتدل على أن الحديث النبوي نصوص شرعية يحتكم إليها المسلمون للقيام بما يحتاجه التشريع، وكلام بليغ فصيح هـو «سنة شريفة تقتضي من المسلمين اتباعها، تأسيا بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم »
[7] ، الذي لازمت كلامه الفصاحة في جميع مواقفه. فلو دخلت لغة الحديث ونظمه وبلاغته لغتنا، وقفزت على ألسنتنا وتوضعت في أنماط تعبيرنا، مثلما دخلت السنة حياتنا العملية وأثرت فيها، لارتفع شأن اللغة العربية اليوم، ولارتفعت درجة فصاحتها، ولكان للسنة حضور وشيعوعة في استعمالنا اللغوي بكافة وجوهه وميادينه، وخاصة الميدان العلمي والأدبي، وما يشتمل عليه من تأليف وإبداع ونقد وبحث علمي، ولتوارى أثر اللهجات العامية والدوارج المحلية. فالعربية الفصحى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، كباقي السنن الفعلية المأثورة عن النبي والصحابة، بل هـي من آكد السنن.
أما ما يثار من شبهات معاصرة حول اللغة العربية مثل شبهة «اللغة الدينية »
[8] في مقابل «اللغة العصرية»، وشبهة «الجملة القرآنية» في مقابل «الجملة الإنجيلية»
[9] فمصدره الاستعمار الذي وجد الناس يحفظون القرآن الكريم منذ طفولتهم وإن لم يفهموه ولم يتخذوه لسانهم، فظنوا أن الفصحى
[ ص: 48 ] لغة دينية، مثلما عدوا اللغة اللاتينية لغة دينية، وكأنه لا يقترن بالدين إلا كل ما آل أمره إلى الموت والزوال، فعمل الاستعمار منذ استيلائه على بلاد العرب على الاستهانة بالعربية وتنـزيلها منـزلة الأجنبية في عقر دارها، تدرس في غربة شديدة على نفوس الناشئة، ويدفع بها إلى الانحلال والتراجع، ولكن اجتهاد الاستعمار منذ دخوله وما أثمره من ثمار التمكين لثقافته ولغته على حساب لغة البلاد العربية وثقافتها، لا ينبغي أن يثني العزائم، بل يجب أن يكون حافزا للعودة إلى إحياء اللغة والذات والرجوع إليها والاعتقاد الجازم بأن الأمة تمر من امتحان الغربة في اللغة، مثلما مرت وما زالت تمر من امتحان الغربة في الدين.
مَفْهومُ غُرْبَةِ العربيّة
إذا عرضْنا صفةَ الغربةِ في الدّينِ والإيمانِ على اللّسانِ العربِيّ الذي نزلَ به الذّكرُ الحكيمُ ونطقَ به خاتمُ المرسَلينَ في بيانِه الكريمِ، فإنّنا نُصادِفُ أنّ لغةَ التّشريعِ أصابَها ما أصابَ التّشريعَ من غُربةٍ؛ لأنّها النّاطقةُ بلِسانِه والمُعرِبةُ عن أصولِه ومَعانيه. وغربةُ اللّسانِ ممدوحةٌ كغربةِ الدّينِ؛ لأنّها لغةُ الغُرَباءِ الفرّارينَ بدينِهم الصّالحينَ المُصلِحينَ في زمنِ الإفسادِ.
لقد بدأ اللِّسانُ مع بدايةِ الإسلامِ غريبًا، وصارَ إلى غربةٍ عندما هـجرَه النّاسُ. ولقد عرَّفَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم هـؤلاءِ الغرَباءَ الفرّارينَ بدينِهم النّزّاعينَ من القبائلِ بأنّهم الذينَ يُحيون سنّتَه ويُعلِّمونَها النّاسَ، ومن سنّتِه الطّاهرةِ بيانُه الكريمُ ولغتُه الشّريفةُ، وكلُّ ما نطقَ به ووصَلَنا بطريقِ الرِّواياتِ المتواتِرةِ والأسانيدِ الصّحيحةِ، هـو من أجودِ الكلامِ وأبلغِه وأفصحِه.
فالفصاحةُ سنّةٌ نبويّةٌ كريـمةٌ يلزمُ إحـياؤُها واتِّباعُها كباقي السُّننِ، ولا يقتصِرُ أمرُ تعلُّمِها على رِجالِ الأدبِ والعِلْمِ والفكرِ والتّعليمِ والإعلامِ، إنّها سُنَّةٌ شريفةٌ تقتضي من المسلِمينَ اتّباعها، تأسِّيًا بالنّبيِّ الكَريمِ، وتعبيرًا عن المحبّةِ والوفاءِ
[1] [ ص: 44 ] فيكونُ لتعلّمِ الفصاحةِ وتعليمِها أساسٌ دينيٌّ تستندُ إليه اللغةُ العربيّةُ، وعُمقٌ إيمانيٌّ، ووفاءٌ للسّنّةِ، ومحبّةٌ لصاحبِها، ولا تظلُّ محصورةً في رِبقةِ فرضِ الكِفايةِ الذي يسقُطُ بإقامةِ بعضِهم له عن الباقينَ، فليس أحدٌ من المسلِمين متحلِّلا من النّطقِ بلغةِ العربِ في حياتِه اليوميّةِ والعلميّةِ
[2] .
أمّا الدّوارِجُ واللّهجاتُ العامّيّةُ فهي أمورٌ مُحْدَثاتٌ ولُغاتٌ مبتدَعاتٌ، وما زالَ العلماءُ يكرَهونَ تغييرَ شعائِرِ العربِ حتّى في المُعاملاتِ وهو «التّكلُّمُ بغيرِ العربيّة » إلاّ للحاجَةِ، كما نصّ على ذلك
مالِكٌ والشّافعيّ وأحمدُ ، بل قال
الإمامُ مالكٌ : « من تكلَّمَ في مسجِدِنا بغيرِ العربيّةِ أُخرِجَ منه » ، مع أنّ سائرَ الألسنِ يجوزُ النّطقُ بها لأصحابِها، ولكن سوّغوها للحاجةِ وكرِهوها لغيرِ الحاجةِ، ولحفظِ شعائرِ الإسلامِ؛ فإنّ الله أنزلَ كتابَه باللّسانِ العربيِّ، وبَعثَ به نبيَّه العربيَّ، فصارَ حفظُ شعارِ العربيّةِ من تمامِ حفظِ الإسلامِ
[3] .
وفصاحةُ الحديثِ النّبويِّ سنّةٌ عَمَلِيّةٌ لا تقتصِرُ على عهدِ النّبوّةِ، ولكنّها تمتدّ إلى مساحاتٍ شاسعةٍ من تاريخِ العربيّةِ في تطوّرِها عبرَ العُصورِ إلى يومِنا هـذا، وتجدُ مهدَها في القرآنِ الكريمِ الذي هـو كتابٌ معجزٌ في بلاغتِه ونظمِه وفصاحتِه، ولكنّه مقياسٌ عالٍ ونموذجٌ سامٍ والْتِحاقٌ لِمَلَكَةِ المتكلِّم اللّغويّةِ بفصاحةِ القرآنِ الكريمِ في صورِها وملامِحِها المتنوِّعةِ، وهي البابُ المفضي
[ ص: 45 ] إلى إدراكِ الأحكامِ وتمثُّلِ المعاني والمبادئِ التي نزلت بلسانِ العربِ. فينبغي للمتكلِّمِ من هـذا الوجهِ أن يحملَ نفسَه على ممارسةِ تلاوةِ القرآنِ الكريمِ باللّسانِ الذي به أنزِل وبالفصاحةِ العاليةِ التي بها نطقَ الأوّلونَ؛ فقد جاءَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابِه وتابعيهم رضي الله عنهم مِن تفضيل إعرابِ القرآنِ والحضِّ على تعليمِه وذمِّ اللّحنِ وكراهيتِه ما وجَبَ به على قرّاءِ القرآنِ الكريمِ أن يأخذوا أنفسَهم بالاجتهادِ في تعلّمِه؛ فقد رويَ
( عن أبي هـريرةَ ، رضي الله عنه ، أنّ النبيّ قال : «أعرِبوا القرآنَ والْتمِسوا غرائبَه ) [4] ، " ورويَ عن
عُمَرَ رضي الله عنه أنّه كتبَ: أن تَعَلَّموا الفرائضَ والسّنّةَ واللّحنَ كَما تَعَلَّمونَ القرآنَ. " واللّحنُ هـو انْتِحاءُ سمتِ العربِ في كلامِها
[5] ، ورُويَ " عن
عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، رضي الله عنه ، أنّه قالَ: جرِّدوا القرآنَ وزيِّنوه بأحسنِ الأصواتِ وأعرِبوه فإنّه عربيّ، واللهُ يحبُّ أن يُعرَبَ "
[6] ، وقيلَ
للحسنِ في قومٍ يتعلّمونَ العربيّةَ، فقالَ: أحسَنوا، يتعلّمونَ لغةَ نبيِّهم.
والحديثُ النبويُّ الشّريفُ وجهٌ عمليّ للقرآنِ الكريمِ، وتطبيقٌ متفوِّقٌ لبلاغتِه وفصاحتِه ونسَقِه وبيانِه، وله قدرَة عاليةٌ على الوضعِ والتّشقيقِ للألفاظِ، وهو يغترِفُ من معينِ القرآنِ، ويستجيبُ للحاجاتِ اليوميّةِ
[ ص: 46 ] المتجدِّدةِ ومطالبِ الحياةِ ومثاراتِ المقامِ. فينبغي للمسلِمِ أن يُغلِّبَ الفصاحةَ النّبويّةَ في سُلوكِه الكلامِيِّ على لهجتِه المحلّيّةِ، ويقوِّيَ إحساسَه بها، ويُجاوِزَ واقعَ الضّعفِ والاسْتِغْراقِ في الخصائصِ المحلّيّةِ؛ فإنّ إحساسَ الفرْدِ اليومَ باللّغةِ ضعيفٌ بالفطرةِ، والنّاسُ لا تقرأُ إلاّ عَناوينَ الأخبارِ في الصّحُف السّيّارةِ والمقالاتِ الشّاردةِ، إنّه إحساسٌ أجنبيّ مشوبٌ بِلُوثَةِ العُجمةِ والعامّيّةِ، وما زالَ الإحساسُ بالفصاحةِ يتراجعُ حتّى حُصِرَت اللّغةُ في دائرةٍ ضيّقةٍ، وحلّت في المحلِّ الأدنى بعدَ أن كانت لُغَةَ الأمّةِ الأمَّ ورِباطَها الوثيقَ الذي يمنعُ عنها التّفكُّكَ. فاللّغةُ العربيّةُ الفُصحى تستطيعُ أن تكونَ لغةَ التّخاطُبِ اليوميِّ في البلادِ العربيّةِ بدلا من اللّهَجـاتِ العامّـيّةِ؛ لأنّ فيها ما يقرِّبُ بين المتكلِّمينَ، بل هـي لغةُ القرآنِ الكريمِ ولغةُ الحديثِ النّبويِّ المُبينِ عن القرآنِ الكريمِ، ولفظُ القرآنِ مرتبطٌ أشدَّ الارتباطِ بعقيدةِ المسلمِ وعباداتِه وتشريعِه واقتصادِه وعِلمِه وسائرِ أعمالِه ومُعاملاتِه، فلا يكادُ يوجدُ شيءٌ في حياةِ المسلِمِ إلاّ وله في القرآنِ الكريمِ هـديٌ يُتَّبَعُ وأحكامٌ تُستنبَطُ، وله في الحديثِ تفصيلُ ما أُجمِلَ في القرآنِ، وبيانُ ما أُبْهِمَ، وإيضاحُ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياةِ الفردِ والجماعةِ.
وهُناكَ أَحاديثُ كَثيرَةٌ لا تَكادُ تُحْصى جَمَعَتْ بَيْنَ الإيجازِ والْجَمْعِ في الْكَلِمِ، بَلاغَةً، وبَيْنَ الدّلالَةِ عَلى مَواقِفَ مِنَ الْحَياةِ الاجْتِماعِيَّةِ النّابِضَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ، دلالَةً، وبَيْنَ تَنَوُّعِ أَنْماطِ الْجُمَلِ، لُغَةً وتَرْكيبًا. وكُلُّ هـذِهِ الْمَزايا الْبَيانِيَّةِ والْبَلاغِيَّةِ، والدّلالِيَّةِ الْمَقامِيَّةِ، واللُّغَوِيَّةِ التَّرْكيبِيَّةِ التي يَزْخَرُ بِها
[ ص: 47 ] الْحَديثُ قِيَمٌ عالِيَةٌ تَحْمِلُها اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ ويَنْفَعِلُ بِها الْمُتَكَلِّمُ، وتَدُلُّ عَلى أَنَّ الْحَديثَ النَّبَوِيَّ نُصوصٌ شَرْعِيَّةٌ يَحْتَكِمُ إِلَيْها الْمُسْلِمونَ لِلْقِيامِ بِما يَحْتاجُهُ التَّشْريعُ، وكَلامٌ بَليغٌ فَصيحٌ هـُوَ «سُنَّةٌ شَريفَةٌ تَقْتَضي مِنَ الْمُسْلِمينَ اتِّباعَها، تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ الْكَريمِ صلى الله عليه وسلم »
[7] ، الذي لازَمَت كَلامَهُ الْفَصاحَةُ في جَميعِ مَواقِفِهِ. فَلَوْ دَخَلَتْ لُغَةُ الْحَديثِ ونَظْمُهُ وبَلاغَتُهُ لُغَتَنا، وقَفَزَتْ عَلى أَلْسِنَتِنا وتَوَضَّعَتْ في أَنْماطِ تَعْبيرِنا، مِثْلَما دَخَلَتِ السُّنَّةُ حَياتَنا الْعَمَلِيَّةَ وأَثَّرَتْ فيها، لارْتَفَعَ شَأْنُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْيَوْمَ، ولارْتَفَعَتْ دَرَجَةُ فَصاحَتِها، ولَكانَ لِلسُّنَّةِ حُضورٌ وشَيْعوعَةٌ في اسْتِعْمالِنا اللُّغَوِيِّ بِكافَّةِ وُجوهِهِ ومَيادينِهِ، وخاصَّةً الْمَيْدانَ الْعِلْمِيَّ والأَدَبِيَّ، وما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْليفٍ وإِبْداعٍ ونَقْدٍ وبَحْثٍ عِلْمِيٍّ، ولَتَوارى أَثَرُ اللَّهَجاتِ الْعامِّيَّةِ والدَّوارِجِ الْمَحَلِّيَّةِ. فَالْعَرَبِيَّةُ الْفُصْحى سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وسُنَّةُ الْخُلَفاءِ الرّاشِدينَ الْمَهْدِيّينَ، كَباقي السُّنَنِ الْفِعْلِيَّةِ الْمَأْثورَةِ عَنِ النَّبِيِّ والصَّحابَةِ، بَلْ هـِيَ مِنْ آكَدِ السُّنَنِ.
أمّا ما يُثارُ من شُبُهاتٍ معاصرَةٍ حولَ اللّغةِ العربيّةِ مثل شبهةِ «اللّغة الدّينيّة »
[8] في مقابلِ «اللُّغةِ العصرِيّة»، وشبهةِ «الجُملة القرآنيّة» في مُقابلِ «الجُملةِ الإنجيليّة»
[9] فمصدرُه الاستعمارُ الذي وجَد النّاسَ يحفظونَ القرآنَ الكريمَ منذ طفولَتِهم وإن لم يفهموه ولم يتّخذوه لِسانَهم، فظنّوا أنّ الفصحى
[ ص: 48 ] لغةٌ دينيّةٌ، مثلما عدّوا اللّغةَ اللاّتينيّةَ لغةً دينيّةً، وكأنّه لا يقترِن بالدّينِ إلاّ كلُّ ما آلَ أمرُه إلى الموتِ والزّوالِ، فعمِلَ الاستعمارُ منذ استيلائه على بلادِ العربِ على الاستهانةِ بالعربيّةِ وتنـزيلِها منـزلةَ الأجنبيّةِ في عُقرِ دارِها، تُدَرَّسُ في غربةٍ شديدةٍ على نفوسِ النّاشئةِ، ويُدفعُ بها إلى الانحِلالِ والتّراجعِ، ولكنّ اجتهادَ الاستعمارِ منذ دخولِه وما أثمرَه من ثمارِ التّمكينِ لثقافتِه ولغتِه على حسابِ لغةِ البلادِ العربيّةِ وثقافتِها، لا ينبغي أن يثنِيَ العزائمَ، بل يجبُ أن يكونَ حافزًا للعودةِ إلى إحياءِ اللّغةِ والذّاتِ والرّجوعِ إليها والاعتقادِ الجازمِ بأنّ الأمّةَ تمرُّ من امتحانِ الغربةِ في اللّغةِ، مثلَما مرّت وما زالت تمرّ من امتحانِ الغربةِ في الدّين.