عوائق التعريب
أ - مواقف فئات من النخب العربية
وهي فئات من الذين فطموا ألسنتهم عن العربية الفصحى، وإذا ألزموا بالنطق بها في بعض المواقف ألبسوها الأطمار المعيبة، محرفين مصحفين، وجامعين بين الحصاة والعرر في تعابيرهم الخداج، وأساليب عاميتهم المرذولة؛ لأن الاختراق الثقافي أفقدهم الصلات الحميمة بأوطانهم، وبث في نفوسهم الريب والشك في قدرة العربية على تحقيق مطالب التقدم، وكفاءتها في احتواء البناء الحضـاري والثقـافي الذي تخب إليه المجـتمعات العربية. إنها فئات من المحظوظين رضعت الفرنسية والإنجليزية.
وقد سمحت لهم الهجرة بألسنتهم إلى التشبث بالوضع المعلى للغتين متناسين أن «الذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينـزعون إلى أهلها بطبيعة هـذا التعلق... وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم، فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه، إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره، فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم، ثم تكون العواطف في هـذه الدماء للأجنبي، ومن ثم تصـبح عندهم قيمة الأشـياء بمصـدرها لا بنفسها، والخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها، فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن، لأن [ ص: 157 ] وأصبح المفزع إلى غيره. وهي ميول لاشك أن داعي الجهل والمواربة فيها أقوى من صوت العلم والحق، حيث يسوقون جملة من مسوغات التوزيع التدليسي الذي رتبوه للعربية الفصحى على مقاعدهم المنجدة، التي يمكن إجمالها -في نظره- في تخلف العربية عن مواكبة المستجدات العلمية، من خلال شح المعلومة العلمية العربية، بالإضافة إلى أن الموجود من هـذه المعلومة يلفه الغموض، ويشوبه الخلط والاضطراب في الاصطلاحات، وأن المعجمات العربية ما تزال تحتفل بلغة الأعرابي، ولا تواكب التطورات التي تكتسبها الألفاظ في أثناء استعمالها، ناهيك عن ضعف المستوى التكويني بالعربية، وغيرها من الذرائع التي ترتدي في ظاهرها لبوس الحكمة، وفي باطنها من قبلها الإقصاء من ولوج العربية ميادين الاقتصاد والعلوم الدقيقة والمعلوميات، رغبة منهم في الحفاظ على مصالحهم الضيقة، وجعلها مغلقة أبوابها على الفئات الشعبية التي ناضلت من أجل تحرير الأوطان، غير أن جهود نضالها لم يعد عليها بالنفع، وإن عاد على أوطانهم في بعض مناحي الحياة، حيث سدت المناصب الحساسة في وجوههم. وقد أسهمت هـذه الفئة من الفئات في تعميق الشعور بضعف العربية، وقصورها في احتواء منتجات حضارة «العولمة» ، في مقابل ترويجها لكفاءة وعلو كعب الإنجليزية؛ والفرنسية -بنسبة أقل- في وصف جل مناحي الحياة في أدق جزئياتها. [ ص: 158 ] وإذا كان لا بد من إبراز خطأ رأي هـذه الفئة المستغربة، فإننا نؤكد أن العربية بريئة من هـذه التهم التي يلصقونها بثوبها الفضفاض في كثير من الأحيان.
إذ كيف يمكن أن نصف لغة تعد ذخيرتها اللغوية من أغنى وأوسع «الألسنة حتى قيل: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي، وقد أوقع العرب أكثر من لفظ على المعنى الواحد ليبرهنوا على توسعهم في مجال القول، إلى درجة أنهم وسموا المعنى الواحد بمئين من الألفاظ.
فهذا أبو عبد الله بن خالويه الهمذاني يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم، وللحية مائتين.. وذلك حمزة الأصبهاني جمع من أسماء الدواهي ما ينوف على أربعمائة، ذاكرا أن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي.. أما الأصمعي فقد أكد في مجلس هـارون الرشيد أنه يحفظ للحجر سبعين اسما.
وقد ألف العلامة مجد الدين الفيروزأبادي صاحب القاموس كتابا سماه: الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف» [1] . يتضح مما سبق أن لا ذنب للعربية فيما توصف به اليوم من لدن فئات حلأت نفسها عن شدو عجائب العربية وفتوحاتها، بل الذنب يرجع إلى أبناء العربية، الذين ضيقوا عليها منافسها، وحجروا واسعها.
انظر إلى ما تعانيه العربية من اتساع في الاصطلاح بالنسبة إلى اصطلاح: (vers libres) فهو: الشعر الحر، والشعر الطليق، والشعر الحديث، والشعر المعاصر، والشعر الجديد، والشعر المنثور، والشعر المطلق، والشعر المنطلق، وشعر التفعيلة، وشعر الحداثة، وهلم جرا. [ ص: 159 ] وقد يقول قائل: إن هـذا الاتساع هـو في الأدب فقط أما في العلوم فإن العربية تعاني القلة والنذرة. وهي لعمري تهمة يمكن دحضها بالإشارة إلى الاصطلاحات الآتية التي يحافظون فيها على اللفظ الأجنبي مع أن مقابله العربي منهم على طرف الثمام مثل: اصطلاح: «اللنفا» الذي يعني الخلط الأبيض الذي يسيل في عروق محددة؛ مع أن مقابله العربي الفصيح هـو: «البلغم» ، ويرددون الاستعمال المركب الآتي: «ملتقى الشفتين» ترجمة للاصطلاح الأجنبي: (commissure des lévres) مع أن اصطلاح «الصامغ» هـو الفصيح الخفيف على اللسان. بل إن الاصطلاح الفرنسي (congestion) يصلح له اصطلاحان: أحدهما ذائع الصيت، رغم أنه مركب من كلمتين خشية أن يفهم منه شيء آخر وهو «احتقان الدم» لأن الاحتقان يكون للبول والماء والدم واللبن والكبد والكلية والضرع، ولهذا يجب ربط لفظة (الاحتقان) بضميمة توضح المراد. أما الاصطلاح العجيب السهل الذي ينتظر من يوقظه من المعجمات فهو اصطلاح: ( التبـوغ ) = ( التبـيغ ) . قال الجوهري : «تبوغ الدم بصاحبه فقتله. وفي الحديث: ( عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله ) ( أي لا يتهيج» [2] . وفي ميدان اللسانيات نجد للاصطلاح الأجنبي الواحد أكثر من مصطلح عربي مثل: (signe) الذي يطـلق عليه: الرمز أو العـلامة أو الإشـارة [ ص: 160 ] أو الدليل. الأمر الذي يثبت أن مسوغات قصور العربية وعدم كفايتها في الصناعة الاصطلاحية، يعد بلا ريب نتائج أوهام هـرمة، وبوادر خيالات شائخة، لابد لها من ضربة لازب تبدد أضغاث أحلامها.