الفصل الرابع
في سؤال النهضة [1] في العالم الإسلامي
المبحث الأول: رحلة السؤال النهضوي
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، والعالم الإسلامي الحديث يشهد حركة متصـاعدة في أزمنة تاريخية مختـلفة لمشروعات النهضة والإصلاح والتجديد في الأمة.. ردا على واقع التخلف والتجزئة والتبعية والتغريب..
وقد ساهمـت هذه المشـروعات في تجـديد الوعي ويقظـة الروح وإحياء الفكر في الأمة. وتبلور من هذه المشروعات الخطاب الإسلامي الحديث بمكوناته الأساسية: الوحدة مقابل التجزئة والفرقة، والحرية مقابل الاستبداد والديكتاتورية، والاستقـلال مقابل السيطرة والتبعية، والعدالة مقابل الظلم والاستغـلال، والهوية مقابل التغريب والغزو الثقافي.. مشروعات ترعرعت في مرحلة خضوع العالم الإسلامي للسيطرة والهيمنة الاستعمارية الأوروبية..
[ ص: 151 ] ورواد الإصلاح في هذه المرحلة يتقدمهم السيد «جمال الدين الأفغاني» (1838 - 1897م) ، والشيخ «محمد عبده» (1849-1905م) ، والشيخ «عبدالرحمن الكواكبي» (1854-1902م) وآخرون..
وهذه الفترة التاريخية تعد من الفترات الحساسة والخطيرة من تاريخ العالم الإسلامي الحديث، حيث ارتبطت أحداثها وتطوراتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بالأوضاع والتحولات، التي وصل إليها العالم الإسلامي إلى هذا اليوم.. فهي فترة لم تنفصل ولم تنقطع عن الواقع الإسلامي..
من جهة أخرى إن تلك النهضات الإصلاحية شكلت مرجعيات فكرية وسياسية في الفكر السياسي والإصلاحي الإسلامي الحديث والمعاصر..
ومع تحولات المرحلة وانتقال العالم الإسلامي من مرحلة دولة الخلافة الإسلامية المتمثلة في الدولة العثمانية إلى مرحلة الدولة القطرية في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، وتحديدا بعد العشرية الثانية، أي بعد سنة 1924م مع الإعلان عن نهاية دولة الخلافة العثمانية, هذه التحولات الخطيرة كان من الطبيعي أن تتبعها تحولات في مشروعات النهضة والإصلاح الإسلامي، من مشروعات القيادات الفردية إلى مشروعات الجماعات المنظمة، وتبلورت مفاهيم جديدة في العمل الإسلامي وإدارة الجماعات الإسلامية..
ومن رواد هـذه المرحـلة التاريخيـة: الشيخ «حسن البنا» (1906-1949م) ، والأستاذ «أبو الأعلى المودودي» (1903-1979م) ، والسيد «محمد باقر الصدر» (1935-1980م) ..
[ ص: 152 ] وهذه الاستجابة بهذه الكيفية من التجديدات الثقافية والمنهجية كانت ضرورية وإيجابية في إنهاض الواقع الإسلامي بمعطياته الجديدة..
ولم تقف هذه التجديدات عند هذه المرحلة، بل كلما حصلت تحولات أساسية في الواقع أعقبتها تحولات في الرؤى الثقافية والمنهجية، ففي النصف الثاني من القرن العشرين حصلت تحولات تجديدية في مشروعات النهضة والإصلاح الإسلامي، تركزت هذه المرة على صعيد الفكر والثقافة بشكل أساس، ولا ينفصل في الوقت نفسه عن حركية وفاعلية أنماط العمل الإسـلامي، لأن هذه التجديدات جاءت من مفكرين لا من قيادات ميدانية، ومن هؤلاء: «سيد قطب» (1906-1966م) ، «مالك بن نبي» (1905-1973م) ، و «علي شريعتي» (1933-1977م) ..
وتواصلت هذه التجديدات إلى نهاية عقد السبعينيات بانطلاقة الصحوة الإسلامية الناهضة على طول امتداد البلاد الإسلامية.. وقد شهد عقد الثمانينيات تحولات ساخنة وأحداث خطيرة تلاحقت على عقد التسعينيات، وفي هذا العقد بدأ العالم يتحول ويتجدد على مختلف الأصعدة السياسية والفكرية والاقتصادية والتقنية، وفي ثورة المعلومات والاتصالات، ومازالت هذه التحولات تتواصل وقد لا تتوقف، وتبعث على التأمل الدقيق والتفكير النوعي العميق، تجعلنا نتساءل أكثر من أي وقت مضى عن مستقبليات العالم الإسلامي! وكيف نخطط لأنفسنا، وأين موقعنا من العالم المتغير!
تساؤلات هي في جوهرها البحث عن مشروعات النهضة من جديد.. فأين هي مشروعاتنا للنهضة الإسلامية المعاصرة في هذه الظروف الجديدة والتحولات الجديدة!؟
[ ص: 153 ] وهذا ليس معناه إلغاء أو رفض المشروعات الإصلاحية السابقة، فهذا ليس من المنهج العلمي في شيء، وليس من المنهج أيضا اجترار السابق وكأننا قد توقفنا عن الإبداع والتجديد وأصبنا بالعقم والجمود.. فنحن في مرحلة جديدة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة لها شروطها واحتياجاتها ومكوناتها وتحدياتها وآفاقها الجديدة.. من هنا نصل لنتساءل: من أين تبدأ النهضة ؟
هذا السؤال لا نطرحه لأنفسنا فحسب، بل نطرحه لكل الساحة العربية والإسلامية.. النهضة التي تبدأ أولا من نقد الذات:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد : 11) ،
ونقد الذات يحتاج إلى تشخيص الذات، وتشخيص الذات يحتاج إلى العودة إلى الذات.. لأن التغيير والنهضة يبدآن من الإنسان وليس من الظروف ولا من الأدوات والإمكانيات فقط..
والتخلف في نفوسنا وعقولنا وإراداتنا وليس في شيء آخر على الإطلاق.. فالحضارة يصنعها إنسان الحضارة، والتقدم يصنعه إنسان التقدم، والإبداع يصنعه إنسان الإبداع، والوحدة يصنعها إنسان الوحدة [2] .
وسعيا للإجابة عن سؤال النهضة، كانت الرحلة الحديثة إلى الغرب، عندما دشن محمد علي سلسلة البعثات العلمية نحو الغرب في العصر الحديث. ويمكن تقسيم الرحالين إلى ثلاث حقب:
- رحالو الحقبة الأولى (1826/1880) : ويمكن حصرهم في الأعلام التالية أسماؤهم:
[ ص: 154 ] - رفاعة الطهطاوي (1801/1873م) وقد ألف كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريس»، دون فيه أخبار رحلته إلى فرنسا.
- خير الدين التونسي (1810/1890م) الذي وضع كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك».
- أحمد فارس الشدياق (1804/1887م) الذي لخص انطباعاته في كتاب «الواسطة في معرفة أحوال مالطة».
ولقد كان تدوين مشاهداتهم في الغرب تعبيرا عن حاجة سياسية واجتماعية، وإن خالطتها الرؤية الذاتية، التي اتسعت لتغدو معبرة عن قضايا السياسة والاجتماع، منطلقين من واقع المجتمع الغربي في مضاميره السياسية والاجتماعية والعلمية. وقد تطرق رحالو هذا الجيل إلى الحرية والإخاء والمساواة، شعارات الثورة الفرنسية.
فالطهطاوي-مثلا- وصف ثورة الشعب الفرنسي على الملك شارل العاشر سنة 1830م، وكيف خالف الدستور، لذا نراه قد ترجم مواده مبينا ما تنص عليه من تساوي المواطنين جميعا إزاء القانون وفي الحقوق والوظائف والرتب.
وكذلك خير الدين التونسي، بين أن الثورة الفرنسية نقلت الإنسان إلى مجتمع جديد زالت فيه العبودية وحققت الحرية والمساواة إزاء القانون. وأكد أن الحرية كانت سبب مدنية أوروبا وعلومها..من هذه الزاوية يبدو تأثير الفكر الأوروبي واضحا وجليا في آراء رحالينا وخاصة فلاسفته كجان جاك روسو، ومونتسكيو... [3] .
[ ص: 155 ] وعندما ألف كتابه «أقوم المسالك... » سنة 1867م حض فيه على الاقتباس من الفكر السياسي الأوروبي بحجة أن ذلك أخذ من المسلمين ومن حقهم أن يستعيدوه، فإن الأمر «إذا كان صادرا من غيرنا وكان صوابا موافقا للأدلة، لاسيما إذا كنا عليه، وأخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله». وحشد كثيرا من الأدلة مثل الإفادة من خبرات سلمان الفارسي ( في حفر الخندق واستعمال المسلمين الأوائل المنطق. ويخلص التونسي إلى قوله: «فأي مانع اليوم من أخذ بعض المعارف، التي نرى أنفسنا محتاجين إليها غاية الاحتياج في دفع المكائد وجلب الفوائد» [4] .
- رحالو الحقبة الثانية (1880/1918م) : وقد عاصروا فترة الاحتلال الغربي المباشر، ومنهم:
- محمد أمين فكري: ( 1856/1899م) من كتبه: «إرشاد الألبا في محاسن أروبا».
- أحمد زكي: (1866/1934م) الذي وضع كتاب «السفر إلى المؤتمر».
- محمد إبراهيم المويلحي: (1868/1930 م) ، ومن كتبه «الرحلة الثانية» وهو مشاهدات حول معرض اللوفر في باريس.
بالإضافة إلى مجموعة من المصلحين الإسلاميين مثل الأفغاني وعبده... الذين عاشوا في الغرب وخالطوا أهله وتأثروا به، ويظهر ذلك من خلال
[ ص: 156 ] كتاباتهم ومواقفهم، التي سنركز عليها في مباحثنا القادمة أكثر من غيرهم لاتصالهم المباشر بموضوعنا.
- رحـالو الحقبة الثالثة: التي تزامنـت مع فترة مابين الحربين العالميتين، ومنهم:
- شكيب أرسلان (1869/1946م) ، وكانت أغلب كتبه متصفة بالطابع السياسي ومن أبرزها: «حاضر العالم الإسلامي» و «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقـدس المطـاف» و «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية»، إلا أن أهمها: كتاب «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟».
- أمين الريحاني: (1876/1940م) الذي نشأ في أمريكا، ومن مؤلفاته: «ملوك العرب» و «قلب العراق» [5] .
وحسبنا في هذا البحث أن نشير إلى بعض الأسس الفكرية، التي رسخها هؤلاء وغيرهم ممن لم نذكر في المجتمع الإسلامي، وتأثيرهم على مدارسه الفكرية – لاحقا - بعدما خبروا الغرب وتأثروا به بنسب متفاوتة، وحسبنا هذا في هذا المقام على أمل تعميق البحث والدراسة في قراءاتهم للغرب وما نتج عن ذلك من (اتجاهات استغرابية) في مباحث لاحقة.
[ ص: 157 ]