5- ضعف الهوية الوطنية أو فقدانها:
تعرف الوطنية في أبسط صورها بأنها: «الدافع الذي يؤدي إلى تماسك الأفراد وتوحدهم وإلى ولائهم للوطن وتقاليده والدفاع عنه، ويتكون الشعور بالوطنية منذ سنوات التنشئة الأولى ومن ارتباط الفرد في أول عهده بالبيئة المباشرة» [1] . وهناك من يرى أن المشـاعر التي تتولد لدى الوطني قد لا تستند على التفكير بقدر ما تستند على استجابات العاطفة، ومن هنا فإن الهوية الوطنية يمكن النظر إليها من خلال هذا التعريف، الذي يربط الفرد بمجتمعه الصغير لينقله إلى الولاء للمجتمع الكبير، من خلال العاطفة بالدرجة الأولى، ومن خلال الولاء لتقاليده الثقافية الخاصة والموروث الشعبي، وقبل ذلك عقيدته ودينه، والمظاهر الاجتماعية السائدة في ذلك المجتمع الذي تكون فيه التنشئة الأولى، وهذا يحتم أن يكون المجتمع المحيط بالطفل في غالبيته العظمى ممن يحمل هذا الشعور وهذه الثقافة وهذا الموروث. [ ص: 85 ]
وقبل الحديث عن تأثر الهوية الوطنية بالتوسع العمراني في المجتمع الخليجي لابد من الإشارة إلى حقيقة سكانية مفادها أن من أسباب التوسع العمراني في المدينة الخليجية، وكذلك من نتائج هذا التوسع - في الوقت نفسه - قدوم إعداد كبيرة جدا من العمالة الأجنبية من شتى بقاع الأرض، وبخاصة غير العربية وغير المسلمة، وهذه العملية ليست عملية ميكانيكية مجردة، بل هي عملية تفاعلية اجتماعية كبيرة جدا، حيث إن بعدها الاجتماعي هو الأكبر وهو الأخطر على المدى البعيد والعميق من بعدها الاقتصادي أو السياسي.
فتشير الإحصاءات إلى أرقام مخيفة لنسب العمالة الأجنبية، بخاصة غير العربية وغير المسلمة، فنجد أن نسبهم في بعض البلدان الخليجية قد وصلت إلى ما يسمى بالخطوط الحمراء من درجة الخطورة، ففي دراسة أعدها النائب الأول لرئيس المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة يذكر أن نسبة المواطنين بلغت مداها الأقل في تاريخ الإمارات العربية المتحدة، حيث بلغت (15.4%) مقابل (84.6%) من الوافدين، تمثل الجنسية الهندية منهم (42.5%) ونسبة العرب (13.8%) فقط، فدولة الإمارات تواجه تحديا سافرا من قبل هذا الوجود البشري غير المنتمي والذي يمثل الغالبية العظمى، فهي «تستجلب الملايين دون تفكير فيما ستؤول إليه الأمور.. وهذا الانفتاح أعطى للآخر التحرك أفقيا وأتاح له حرية تأسيس منظومة جديدة تهدد العمق التاريخي لمجتمع الإمارات، فمن خلال هذه [ ص: 86 ] المنظومة فرض المهاجر وجوده ديمـوغرافيا واقتصاديا واجتماعيا وقانونيا وحتى سياسيا» [2] .
ولا يقتصر الأمر على دولة الإمارات فقط بل الخليج بعمومه، حيث يمثل الوافدون ما نسبته (37%) تقريبا من سكان دول الخليج [3] . وفي دولة الكويت يمثل غير الكويتيين ما نسبته (60%) تقريبا من حجم السكان البالغ قرابة المليونين والنصف في عام (2004م) [4] . ولتوضيح حجم الخطر يكفي أن نعرف أن في المملكة العربية السعودية عام (1425هـ/2004م) أكثر من ستة ملايين وافد، وهؤلاء يمثلون قرابة (27%) من جملة السكان [5] ، على الرغم من الإجراءات الصارمة جدا التي تتبعها حكومة المملكة العربية السعودية لتقليل نسبة الوافدين بخاصة من العمالة غير المهرة، وتضييق الفجوة في النسبة بين المواطن والوافد.
وتتعاظم خطورة هذه النسب في ظل المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالعمالة الأجنبية أو المهاجرة المقرة من الأمم المتحدة، والتي قد تلزم [ ص: 87 ] في بعض بنودها بالتوطين والحصول على الجنسية الوطنية مع مرور فترة من الزمن لوجودهم في أحد البلدان، وبالتالي تحول أهل البلد الأصلي إلى أقلية نتيجة للتوسع في استخدام تلك العمالـة والتركيز على جنسيـات محددة مما يتيح لها أن تكون أكثرية على حساب سـكان البلد الأصليـين، وهذا ما حدا بوزراء العمل في دول الخليج إلى اقتراح وضع مدة محددة لبقاء العمالة ومن ثم يغادرون ليحضر غيرهم، حتى لا يصلوا إلى مرحلة المطالبة بالبقاء والحصول على الجنسية [6] .
ولاشك أن السبب في تلك المعضلة هو تعظيم الجوانب الاقتصادية على حساب الجوانب الثقافية والاجتماعية للمجتمع، وهذا ما عمق مشكلة الهوية الوطنية لدى المواطن الخليجي، وجعل منها أزمة حقيقية تأخذ شكل كرة الثلج المتدحرجة من جبل عال، فالشعور بخطورة هذه العمالة على الهوية الوطنية ليست جديدة فقد كان هناك شيء من الجهد العلمي لإبراز هذه المشكلة على السطح العلمي والسياسي منذ أكثر من ربع قرن، حيث انعقدت ندوة بعنوان (العمالة الأجنبية في أقطار الخليج العربي ) عام [ ص: 88 ] (1403هـ/ 1983م) بدولة الكويت [7] . ولكن السؤال المهم في هذا المجال: ماذا تم خلال هذه الفترة لعلاج هذا المشكلة الوطنية العويصة؟
إن تعاظم نسب العمالة الوافدة قد يؤدي إلى اغتراب حقيقي بين أفراد المجتمع، وهذا يؤدي بدوره إلى ضعف الشعور بالانتماء ويقلل من الاعتزاز بالهوية الوطنية والدفاع عنها في وقت الأزمات السياسية، «فنحن الآن نتحدث عن تغير فعلي أصاب المدينة الخليجية، فقبل سنوات ليست ببعيدة كانت المدينة الخليجية تحوي خليطا متجانسا يعرف بعضه بعضا، وتسود فيها شكل العائلة الممتدة التي تعيش في جوار واحد، لكن الآن المدينة الخليجية لا تحمل صفاتها المميزة، صرنا نتحدث عن مدينة تحوي كانتونات أوروبية وعربية وهندية ومحلية، وفي المدن الإماراتية يتجسد الأمر بصورة أكبر حيث أصبح المواطن يعيش حالة اغتراب داخل مدينته؛ لأنه أصبح الأقلية داخل هذا المجتمع المدني» [8] . [ ص: 89 ] ويتزايد الخطر على الهوية الوطنية عندما يتصاحب مع ذلك الاهتمام باللغات الأجنبية عامة على حساب اللغة الأم للطفل، وهي اللغة العربية، كما هو ملاحظ في عدد من الدول الخليجية، من حيث إضفاء تلك الهالة التقديرية لمن يتعامل بها أو يتقنها؛ ومع أهمية اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العصر ولكن أثر ذلك على الأطفال بخاصة في تنشئتهم الأولى قد تصيب الهوية الوطنية لديهم في مقتل، سواء بقصد أم بغير قصد، من قبل المجتمع ومؤسساته الرسمية، وكذلك من قبل الوالدان. ومن المؤسف أن تأتي اللغة العربية في المرتبة الرابعة في إحدى الدول الخليجية المسلمة العربية، مما جعل معيار توظيف الأشخاص فيها هو مدى إتقانه للغـة الانجليزية حتى في القطاع الحكومي! [9] .
كما ساهم في تعزيز هذه الهوة الثقافية السماح بإنشاء العديد من المدارس الأجنبية في الدول الخليجية، فقد كانت هذه المدارس مقتصرة في بداياتها على أبناء تلك الجاليات فحسب، ولكن الأمر ازداد سواء عندما تم السماح حتى لأبناء الدولة نفسها بالالتحاق بهذه المدارس الأجنبية.. فالطفل خليجي ظاهرا ولكنه في الداخل يتمثل الثقافة التي تم تدريسه بـها في سنواته الأولى، وحتى إن حاولت بعض وزارات التربية في بعض الدول فرض مواد في اللغة العربية أو مواد الدين، لكن هذه المواد ليست إلا قطرة وسط [ ص: 90 ] بحر ثقافي يهدر من معين ثقافة البلد واللغة التي يدرس بها هذا الطفل في بقية المواد، ويعيش في ظلالها طوال اليوم الدراسي، فما عسى أن تفعل ساعة تخصص للغة العربية وساعة أخرى لمادة الدين أمام عشرات الساعات من الثقافة الأجنبية؟
إن مما لا شك فيه أن أزمة الهوية الوطنية، التي تعيشها بعض المدن الخليجية ترجع لأسباب عدة، أهمها الانتقال السريع جدا من مجتمعات تقليدية بسيطة إلى مجتمعات منفتحة بشكل أكثر مما يتوقع بمراحل، وهذا الانفتاح تزامن مع تواصل مكثف فرضته الظروف الدولية والسياسية على المنطقة، وعزز من قوته التطور الهائل في وسائل الاتصالات، من قنوات إعلامية وإنترنت وتواصل حضاري يتمثل في السفر للخارج نتيجة للثراء السريع، الذي انهال على العديد من أفراد المجتمع إثر تزايد مداخيل الدول تبعا لارتفاع أسعار البترول على المستوى العالمي، فكل هذه المعززات جعلت المواطن الخليجي في حالة صدمة حضارية مفاجئة لم يكن على استعداد للتعامل معها أو متغيراتها أو آثارها المتمثلـة فيما يتعلق بالهـوية الوطنية، كما أن الدول فيما يبدو لم تكن تتصور حجم النتائج التي سوف تتولد جراء هذه النقلة التي كانت مدعومة ماديا من قبل العديد من الحكومات الخليجية، التي كانت حريصة على تحقيق الرفاه الاجتماعي لمواطنيها دونما حساب للآثار الاجتماعية المترتبة على العملية التنموية المادية، وهو ما يظهر الآن في أحد صوره المتمثل في ضعف الهوية الوطنية أو تناقصها التدريجي. [ ص: 91 ] ولعل من الشواهد المؤلمة في هذا المجال نتيجة إحدى الدراسات الإعلامية الرائدة، التي أجريت على مدى (15) سنة بشكل تتبعي على عينة من مشاهدي القنوات الفضائية من الجنسيين في مدينة الرياض، خلال ثلاث فترات، الفترة الأولى كانت عام (1415هـ/1995م) والثانية كانت في عام (1420هـ/200م) والثالثة في عام (1425هـ/2005م) [10] ، حيث خرجت بنتائج مذهلة من حيث التطور النوعي في المشاهدات، وقد كان التطور في مشاهدة البرامج الدرامية الأجنبية في الفترات الثلاث على النحو الآتي: (30% - 44% - 57%) وهو تزايد واضح يحكي بجلاء نوعية التعلق المتنامي بالثقافة الأجنبية، فالمشاهدة المستمرة والمتزايدة، يستلزم منها الإعجاب بالمادة المشاهدة ومحتواها ابتداء، واستمرار التعلق في الغالب في محصلتها النهائية. ويقابل ذلك انخفاض كبير في نسبة مشاهدة البرامج الدينية. كما أظهرت الدراسة أن للقنوات الفضائية تأثيراتها المختلفة بشكل تراكمي تدريجي، ومن ذلك على سبيل المثال: الرغبة في العيش خارج أرض الوطن، وعدم الشعور بالرضا، وعدم القناعة بالمستوى المعيشي الحالي، وإن كانت الدراسة أظهرت أن أفراد العينة لديهم شعور بالخطر من تهديد القنوات [ ص: 92 ] الفضائية للعادات والتقاليد، ولكن الغريب أن الممارسة التي يتطلبها مدافعة هذا الخطر لم توجد بينهم في خطوات عملية، مثل التقليل من التعرض لهذه القنوات أو البرامج، بل الأمر في ازدياد، لدرجة أن القناة التي احتلت المركز الأول في تفضيل أفراد العينة لها كان بسبب تخصصها في بث أفلاما أمريكية جديدة. كما أظهرت الدراسة انتشار مشاهدة القنوات الفضائية الأجنبية بين الشباب حتى أولئك الذين لا يتقنون اللغات الأجنبية، وأن مشاهدة القنوات المحلية أو العربية في هبوط مستمر وبشكل ملحوظ، ولا شك أن ذلك قد ينطوي على تعلق بالثقافة الغربية بشكل عام.