المطلب الثالث: التفريق بين المقاصد والوسائل:
إن التمييز بين ماهو مقصد للحكم الشرعي مما هو وسيلة إليه أو وسيلة إلى وسيلته له أهمية كبيرة عند تطبيق الحكم، حتى لا يقع عند الموازنة والترجيح بين المصالح خلل يفضي إلى الإخلال بالمقصد الشرعي [1] ، فالوسيلـة المحضة، التي لا يتعلق بـها غرض، لا بـمادتها ولا بصورتـها، [ ص: 56 ] يحصل بـها المقصود كيفما كانت [2] ، فمن كان متمـكنا من المقصـود بلا وسيلة لم يؤمر أن يترك المقصود، ويشتغل بالوسيلة [3] .
ومثال ذلك: تغير الدية حسب الوسيلة المناسبة لكل قوم، فهي تختلف باختلاف أقوال الناس في جنسها وقدرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جعلها مائة لأقوام كانت أموالهم الإبل، ولهذا جعلها على أهل الذهب ذهبا وعلى أهل الفضة فضة وعلى أهل الشاء شاء، وعلى أهل الثياب ثيابا، وبذلك مضت سيرة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وغيره [4] .
ومن ذلك أيضـا المشي حـول البيت طـائفا، فالطـواف هو العبادة المقصودة، والمشي هـو وسيلـة إلى ذلك وطريق، فمن ترك المشي من هذا المقصـود الذي هو العـبادة، واشتغل بالوسيلـة، فهو جاهل بحقيقة الدين [5] .
فهذا إعمال للمقاصد في مرحلة الاستنباط نتج عنه إعمالها في مرحلة التنـزيل، ومن هنا صدق الإمام ابن تيمية حين اعتبر معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها خاصة الفقه في الدين [6] . [ ص: 57 ]