الفصل الرابع
في الأسباب الموضوعية والعلمية
لإصلاح مناهج العلوم الإسلامية
لا يشك أحد من أهل العلم - كما أسلفنا - بأن تقدم الأمم وسؤددها، كان - ولا يزال - مرهونا كل الرهان بما يوليه القائمون على أمرها من اهتمام عظيم، وعناية فائقة، ورعاية كريمة للمؤسسة التعليمية عامة وللمناهج التعليمية خاصة، ذلك لأن هذه المؤسسة التعليمية هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن صنع الأجيال من خلال رسم السياسات الثاقبة، وتحديد المنطلقات الصائبة، وتوجيه الطاقات الشابة توجيها يجعلها تتفاعل - بفعالية واقتدار- مع المجتمع حوله، كما أنها هي المسؤولة عن نهضة الشعوب، وتقدم الأمم وتطورها، وتوكل إليها مهمة الإصلاح والتطوير، والترقي.
وفضلا عن هذا، فإن استقلال الشعوب والأمم وحفاظ الدول على سيادتها ومكانتها يتوقفان توقفا أساسا على مدى استقلال مؤسساتها التعليمية، وأصالة نظامها التعليمي والتربوي، وتعبير مناهجها التعليمية عن مبادئها وأهدافها وتطلعاتها في الحياة. [ ص: 89 ]
ولهـذا، فـلا غـرو أن يؤم المصلحون المخلصون المؤسسة التعليمية عامة، والمناهـج التعليمية خاصـة عنـد ما يحز به أمر، أو تداهمهم نازلة، أو تفجعهم فاجعة، بل لا عجب من أن يتخذ أولو النهى والألباب من المناهج التعليمية بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، منطلقات لتحقيق ما يصبون إليه من إصلاح منشود للواقع الذي هم فيه، ومن تغيير مرجو للظروف والأحوال التي يعيشون فيها.
ولهـذا، فقـد كانت المناهج التعليمية - ولا تزال - أهم جهة مستهدفة للإصلاح والتغيير والتطـوير والتعديل، وقد شهدت - ولا تزال تشهد - على مر العصور وكر الدهور ضروبا من إعادة الصياغة والتصميم أملا في أن تسهـم بفاعلية في إنتاج جيل متمسك بالثوابت والمبادئ، ومواكب التغيرات والتطورات، ومتفاعل مع مستجـدات الواقع المعاش، فتتحقق لهذا الجيل حياة ملؤها الاستقرار، والتقدم، والنهضة، والتطور، والأمان. ولن تقوى المناهج على تحقيق هذه الغايات ما لم تغدو مناهج جامعة بين الأصالة والمعاصرة، ومتمتعة بوضوح الرؤية، وسلامة الهدف في الحياة، وواقعية الأساليب والوسائل، التي تستخدم من أجل الوصول إلى الغايات والأهداف المرسومة.
إن هذه الأهمية القصوى والمكانة العليا، التي تحتلها المناهج التعليمية في تحديد مصائر الشعوب ومستقبل الأمم، هي التي تجعلها - كما أسلفنا - محل اهتمام وتركيز وتصميم ومراقبة لدى الأمم، التي ترغب في السيطرة والتأثير [ ص: 90 ] والاستيلاء على غيرها من الأمم بغية ضمان استمرارية سيطرتها وقبضتها على مقدراتها، والتحكم في مصائرها ومنطلقاتها ومواقفها، إذ إن تحكم أمة في غيرها لا تحقيق له ما لم تكن الأمة المتحكمة ذات مناهج رائعة واقعية جامعة شاملة تتسم في الغالب بوضوح الهدف، وسلامة المنطلق، وسداد الأسلوب؛ وبالمقابل تكون الأمة المتحكم فيها ذات مناهج مهلهلة، هائمة، وعائمة، غامضة الهدف، وغير واقعية، ولا مواكبة لما تجري به الحياة في الواقع، مما يجعلها فريسة لغيرها، يتصرف فيها كيفما شاء، ويطوعها لإرادته وإملاءاته، والتاريخ المعاصر خير شاهد على هذا الأمر.
ومن ثم، فإن الأمم الراغبة في استعادة عافيتها، واستئناف دورها الحضاري، تنطلق من المراجعة الحصيفة الشاملة الواعية لمناهجها، بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، قصد الوقوف على الوهن الحضاري، الذي ابتليت به، والهامشية التي فرضت عليها بحبل منها لا بحبل من الناس، وبغية تجاوز ما ران عليه البلى من أهداف مثالية ضبابية غير قابلة للتحقق في أرض الواقع، ومحتويات غير مواكبة لما يعيش فيه الناس، وأساليب تعليم تذكي - بطريقة غير مباشرة - روح الغلو والتطرف والإرهاب، وتقضي - دون قصد - على كل ابتكار أو إبداعية أو حرية في الحوار والمناقشة.
وعندما تقف الأمم على هذه الأدواء المدمرة، تدرك - حينئذ - أن الخلل فيها، وليس في أعدائها كما توهمت، وأن العلاج بيدها لا بيد أعدائها، وليس بالإمكان معالجة هذه الأدواء ما لم تتجرع تلك الأمم جرعات عنيفة من [ ص: 91 ] الظروف الاستثنائية والأهوال المفجعة مما يدفعها إلى إعلان حالة طوارئ قصد إنقاذ الأجيال الصاعدة من الذوبان والهزيمة الشاملة، ماديا وروحيا، والتبعية المؤكدة لغيرها من الأمم.