الفقرة الأولى: الأسباب الموضوعية لإصلاح مناهج العلوم الإسلامية وتطويرها:
إن الواقع المرير، الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية اليوم من خلط فاضح بين الحابل والنابل، واعتداء صارخ على مقررات الدين، وسفك متواصل للدماء المعصـومة، وهتك سـافر للأعراض المصـونة استنادا إلى تأويلات جـائرة، وانحرافات موغـلة في الغلو والتطرف، يعود شطر كبير من هذه الحالة الاستثنائية إلى المؤسسات التعليمية عامة والمناهج التعليمية الدينية والدنيوية خاصة.
إن هذه المؤسسات والمناهج التعليمية مسؤولة قبل غيرها عن أسباب نشأة هذه الحالة المقلقة، التي آلت إليه الأوضاع الفكرية والعقدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الأقطار الإسلامية، ذلك لأن المؤسسة التعليمية بنظمها ومناهجها هي المسؤولة - كما أسلفنا - عن صنع الأجيال من صناع القرار والمسؤولين عن إدارة الدولة، كما أنها هي المسؤولة عن تحديد الأهداف، ورسم السياسات، وتحديد المنطلقات والأساليب التعليمية القادرة على تكوين جيل متكامل وواع ومواكب. [ ص: 92 ]
إن الحقيقة التي لا تخفى على أحد هي أن ثمة حاجة ملحة إلى القيام بمراجعة شاملة للمسألة التعليمية عامة ولمناهج التعليم الديني والدنيوي خاصة، إذ من المشاهد على سبيل المثال أنه على الرغم من تبني معظم الدول الإسلامية الإسلام مصدرا للتشريع والتقنين غير أن المرء لا يجد في واقع الأمر حضورا حقيقيا لهذا الإسلام في الواقع العملي إلا في عدد يسير من هذه الدول، كما أن نظرة فاحصة في الأهداف التعليمية لمناهج العلوم الإسلامية وغيرها يلفيها المرء في كثير من الأحيان متسمة بشيء من الغموض على المستوى التطبيقي العملي مما يجعل تحقيقها في أرض الواقع أمرا صعب المنال ومتعذرا في كثير من الأوقات.
وأما المحتويات التعليمية المتمثلة في المواد، التي يتم اختيارها ووضعها في المقررات الدراسية، فإنها لا تخلو هي الأخرى من التوسع في المسائل الخلافية على حساب المسائل المتفق عليها بين عموم الأمة، ومعلوم أن جملة حسنة من الاجتهادات الظرفية التاريخية نسجت حول معاني العديد من نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، غير أن تلك الاجتهادات يتم تقديمها في كثير من الأحيان كأنها ذاتها جزء أساس من الدين يجب تمثلها والصدور عنها، والحال أنها اجتهادات ظرفية تشكلت في ضوء الظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي كانت سائدة غداة تدوين تلك المدونات في التفسير والفقه والعقيدة وسواها. [ ص: 93 ]
وعليه، فإن ثمة ضرورة شرعية ومصلحة زمنية أكيدة في إعادة النظر الحصيف المخلص في جملة حسنة من تلك المواد والمقررات والمفاهيم التي تقدم للنشء في جميع المراحل التعليمية سعيا إلى تصفيتها من كل المواد، التي تعلي من شأن الخلاف الفقهي والعقدي والتاريخي بين أبناء الأمة الإسلامية.
على أن من الحري تقريره أن ثمة حاجة مماثلة لمراجعة موازية لجملة المواد والمقررات، التي تقدمها المؤسسات التعليمية عبر مناهج العلوم الدنيوية، ذلك لأنه من غير خاف أن مناهج هذه العلوم هي الأخرى تنتظم موادا وموضوعات بعيدة الصلة بالواقع الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي يعيش فيه الإنسان المسلم، ذاك لأنها في معظم الأحيان تعد موادا ومقررات مستوردة من خارج الأقطار الإسلامية، مما يجعلها عديمة الصلة والعلاقة بواقع الناس، الأمر الذي أدى ولا يزال يؤدي إلى تمكن هذه المناهج عبر هذه المحتويات المستوردة والغريبة إنتاج جيل مغرم باستهلاك المعرفة والعلم ولا ولن يحلم أبدا في إنتاج أي شيء ذي بال، بل إنه يكرس التخلف والتأخر، ولا يمكن له - بأي حال من الأحوال - أن يحلم بتحقيق شهود حضاري للأمة، أو تمكينها من استئناف دورها القيادي.
وفضلا عن هذا، فإنه لا يماري أحد من عقلاء الأمة والمنصفين من أبنائها في أن العديد من الأساليب والوسائل التعليمية، التي تستخدم لتمكين النشء من المواد والمقررات والموضوعات، التي تقدم لهم عبر مناهج العلوم الإسلامية تعاني في كثير من الأحيان خروجا واضحا على منهاج النبوة وسيرة [ ص: 94 ] السلف الصالح في التعليم والتلقين، ذلك المنهاج النبوي الذي كان جامعا بين الترغيب والترهيب، والرحمة بالمتعلم، والسماحة وتعليم طريق الجدال بالتي هي أحسن، وعذر المخالف في الاجتهاد والممارسة.
إن جل الأساليب التربوية الشائعة يتخذ من التسلط والترهيب والتأليم النفسي والجسدي سمات أساسية لتلقين النشء، فضلا عن أن ثمة حضورا جليا لتلك الأساليب التربوية والتعليمية، التي لا تقبل النقد والحوار، وترفض الابتكار والإبداع، وتقضي - بطريقة مباشرة وغير مباشرة- على المواهب الناشئة في مهدها، بل إن تلك الأساليب ترى في الحرية الفكرية والانفتاح على (الآخر) والشفافية في التعامل والحـكم على المخـالف أساليب مرفوضة غير مقبولة، مما ينعكس انعكاسا سلبيا على نوعية الأجيال، التي تصنع عن طريق هذه الأساليب المخالفة لأسلوب خير المعلمين وإمام العالمين مصطفى الرحمن الرحيم، فداؤه أبي وأمي، وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أجل، إن رفض الاعتراف بحاجة مناهج العلوم الإسلامية إلى إصلاح شامل ومراجعة عميقة وتطوير مخلص لأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، لا يعدو أن يكون ذلك سوى رفض للحقيقة الباهرة، فهذه المناهج وسواها من المناهج البشرية الاجتهادية لا ينبغي لها أن تسمو - بأي حال من الأحوال - عن المراجعة والإصلاح والتطوير، ويتأكد هذا الأمر عندما يجد المرء كثيرا من السادة الطيبين المخلصين ينظرون إلى هذه المناهج بحسبانها نصوصا قطعية في دلالتها وثبوتها، ويرفعونها عن جميع أشكال الإصلاح والتطوير، فموقف هؤلاء [ ص: 95 ] السلبي المتوجس من الإصلاح والتطوير آكد دليل على ضرورة الحاجة إلى الإصلاح تصحيحا لنظرتهم المثالية التقديسية للاجتهادات التربوية في صياغة الأهداف والمحتويات والأساليب.
إن هذه النظرات والمواقف السلبية من المراجعة والإصلاح تمثل، كل أولئك، دلائل ومؤشرات أكيدة بأن الحاجة ماسة كل المساس إلى إصلاح هذه المناهج، التي أورثتنا هذه السلوكيات، التي لم تزدنا عبر التاريخ إلا انسحابا وتبعية لغيرنا من الأمم، التي تتعهد مناهجها يوما بعد يوم بالإصلاح المستمر والمراجعة الدائبة الهادفة الواعية.
هب أن فئة من المخلصين - ذوي النوايا الحسنة الطيبة - زعمت أن مناهج العلوم الإسلامية السائدة في الأقطار الإسلامية تنتظم أهدافا واضحة ومعبرة، وتتضمن موادا وموضوعات ومقررات سليمة وسديدة، ويتم تقديم تلك المواد والمقررات من خلال أساليب ووسائل تعليمية راقية، ولذلك فلا داعي لإصلاحها ومراجعتها أو تقويمها مادامت متسمة بما ينبغي أن تتسم بها المناهج من خصائص رائعة؟!
إن أقل جواب لهذه النظرة الموغلة في تقديس الاجتهادات البشرية، في الشأن التعليمي والتربوي، يتمثل في تذكير أربابها بأن نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة قد خلت خلوا ظاهرا من أي تنصيص على قطعية هذه الصياغات الجديدة المستحدثة في الملة، كما أن تلك النصوص لم تشمل أيا من هذه الصياغات المنتشرة في الأرجاء بالذكر أو الإشارة، مما يجعلها باقية في [ ص: 96 ] دائرة المظنونات والمجتهدات والفروع، ولا يجوز إخراجها من هذه الدائرة إلى دائرة الثوابت والقواطع إلا تكلفا.
وعليه، فأنى لهذه المناهج خاصية القطعية والثابتية، التي تجعلها سامية على الإصلاح والمراجعـة، وخـاصة أن واضعيها ومصمميها باتفاق أهل العلم كانوا ولا يزالون بشرا يجري عليهم ما يجري على غيرهم من البشر من الخطأ والقصور والنقص؟!
إن إضفاء القطعية والعصمة على هذه المناهج وتجردها من كل عيب ونقص وقصور، يعد ذلك إخراجا لها من دائرة المتغيرات إلى دائرة الثوابت والقواطع، ولا يخفى ما في ذلك من خلط مرفوض بين مراتب الأحكام في الحس الشرعي، بل إن اعتبارها قواطع وثوابت يعد ذلك ترفيعا لواضعيها ومصمميها من أن يكونوا بشرا مجتهدين غير معصومين لا يتأثرون بالظروف والأحوال الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي كانت سائدة يوم أن وضعوا هذه المناهج لأممهم وشعوبهم، ولا يخفى ما في هذا من خروج على الجادة، ومخالفة لنظرة السلف الصالح إلى اجتهادات البشر.
وعليه، فإن الحاجة لا تمس إلى إصلاح مناهج العلوم الإسلامية فحسب، ولكنها تمس أيضا إلى إصلاح مناهج العلوم الدنيوية برمتها، والمؤسسة التعليمية كافة، ذلك لأن الأطر الأكاديمية، التي أنتجتها هذه المؤسسات بنظمها ومناهجها فشلت ".. في تلبية الحاجة الثقافية للأمة، ولم تستطع أداء دور يذكر في ذلك.. فلم يتمكن المسلمون خلال ما يقرب من قرنين من التعليم اللاديني القائم على النموذج الغربي أن يحققوا تقدما، أو يبدأوا نهضة حقيقية.. [ ص: 97 ] فهم لم يستطيعوا أن يؤسسوا لحد الآن مؤسسة أكاديمية تخرج من أبناء المسلمين منافسين لأمثالهم الغربيين في الإبداع والتفوق، والتعامل مع قضايا مجتمعهم من خلال الرؤية الإسلامية والكفاءة والفعالية المطلوبة.. أما مشكلة المستويات المتدنية والمتخلفة في الإطار الأكاديمي في جامعات العالم الإسلامي ومعاهده، فيصعب حلها بالطرق، التي تعالج بها الأمم عادة مشكلاتها المماثلة، لأنها نتيجة حتمية للضياع الفكري وانعدام الرؤية المعرفية الصحيحة.." [1] .
إذا، ليس من سداد الرأي ولا من وجاهة النظر تحميل زمرة من أبناء الأمة - كما جرت العادة - مسؤولية الواقع، الذي تعيش فيه الأمة، فتلك الزمرة سواء أكانت سياسية أم فكرية أم اجتماعية، تعد من نتاج المناهج التعليمية الإسلامية وغيرها، وكان يفترض في هذه المناهج كلها أن تصنع العباقرة، وتنتج القادة وصناع القرار الواعين بدورهم وغايتهم في الحياة، المواكبين لما تجري به الحياة!!
وعلى العموم، إن أملنا في الله ثم في الغيارى المخلصين، الذين يدركون أهمية المراجعة والإصلاح الشامل لمناهج العلوم الإسلامية بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، تصحيحا لجملة الممارسات الشاذة المخالفة للمقاصد السنية العلية، التي من أجلها نشأت العلوم الإسلامية وشقت طريقها، وكان لها دورها البارز في قيام الحضارة الإسلامية التي سعدت بها البشرية، وسلم في ظلها العالم، برا وبحرا وجوا. [ ص: 98 ]