الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            مناهج العلوم الإسلامية والمتغيرات العالمية

            الأستاذ الدكتور / قطب مصطفى سانو

            الفقرة الثانية: الأسباب العلمية لإصلاح مناهج العلوم الإسلامية وتطويرها:

            إن الحاجة تمس اليوم إلى إصلاح المناهج التعليمية التقليدية في ضوء التحـديات والنوازل الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، التي لم تكن حاضرة يوم أن صممت تلك المناهـج ووضعت أهدافها ومحتوياتـها، وذلك قصد النهوض بها، وتطويرها، والارتقاء بها، وصيرورتها مناهج معبرة - بصورة واضحة وعملية - عن هوية الأمة وأهدافها وغاياتـها في الحياة، وقادرة على إنتـاج ذلك الجيـل، الذي تعقد عليه آمال التمكين والشهود الحضاري.

            إن التركيز على إصـلاح مناهـج العلـوم الإسـلامية إصـلاحا شاملا دون غيرها من المسـائل المتصلة بالمؤسسة التعليمية، يعود إلى كون هذه المناهج - كما أسلفنا - المحضن والمصنع، الذي يتم من خلاله إعداد النشء وتمكينهم من الإرث العقدي والفكري والثقافي للأمة، فضلا عن تأهيلهم تأهيلا متـكاملا ومتـوازنا في كافة المعارف والعلـوم المعاصرة، تمكينا لهم من التفـاعل الإيجـابي المؤثر - بثقة واقتدار - مع مجتمعاتهم، والعالم الذي حولهم. [ ص: 99 ]

            وعليه، فإن تعهد مناهج العلوم الإسلامية بالمراجعة الأمينة الدؤوب والتقويم البناء المستمر والتصويب الهادف المتواصل والتعديل المتوازن والتطوير الشامل المتماسك شأن تألفه الأمم المتقدمة، وتمارسه الشعوب الواعية بين الفينة والأخرى بغية الارتقاء بها، وتفعيل دورها وحضورها الفعال لتلبية حاجات المجتمع المتجددة بتجدد الزمان والمكان.

            إن تعهد مناهج العلوم الإسلامية بالمراجعة والتقويم المستمر يرتكز وينطلق من المنهـج الإسـلامي الراسخ، الذي يقـوم على المداومة عـلى مبدأ محـاسبة (الذات)، وتزكية النفس من وقت إلى آخر مصـداقا لما أثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، كما ينطلق من قناعتنا بأن تجـديد الدين، تعليما وتطبيقا، مأمور به بنص قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي أخرجه أبو داود في سننه: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )

            إن المراجعة والإصلاح والتطوير يعد كل أولئك نوعا من أنواع التجديد، إذ لا تجديد بلا مراجعة، وبلا إصلاح، وبلا تطوير، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فهو واجب، فإذا كان التجديد واجبا، وكان تحقيق التجديد متوقفا على المراجعة والإصلاح، فإن المراجعة والإصلاح يعدان - والحال كذلك - واجبا بحسبانهما مقدمة الواجب، ومقدمة الواجب عند أهل العلم بالأصول والمقاصد واجب! [ ص: 100 ]

            وفضـلا عن هذا كله، فإن الدعوة إلى إصـلاح مناهج العلوم الإسلامية تنبثق من إيماننا بأن الاجتهادات البشرية أنى كانت درجتها لم تسم - ذات يوم - في تاريخنا الإسلامي على المراجعة والتصحيح والتقويم والتعديل والتطوير، ويستوي في ذلك الاجتهادات الفقهية والعقدية، التي نسجت حول معاني نصوص الكتاب والسنة، عقيدة وشريعة، والاجتهادات التي رامت بيان حكم الشرع في مستجدات الحياة.

            واعتبارا بأن مناهج العلوم الإسلامية تعد من حيث الصياغات الناظمة والضابطة للأهداف والمحتويات والوسائل وطرق التقويم اجتهادات بشرية تنامت وتطورت عبر التاريخ أملا في رسم السبل المثلى للتعامل مع الواقع الإنساني، وإعداد الفرد الصالح النافع لنفسه ولمجتمعه ولمن حوله، لذلك، فإنها هي الأخرى لا يمكن لها أن تسمو على المراجعة والإصلاح والتقويم والتعديل والتطوير بين الفينة والأخرى، وذلك قصد الارتقاء بها، وتطعيمها بما استجد في عالم الناس من قضايا ومسائل.

            إنه ليس من سديد الرأي ولا من حصيف النظر، الجمود على هذه المناهج بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها وطرق التقويم فيها، واتخاذها نصوصا مقدسة منـزلة من عند الله، بل لا بد من تعهدها بالتقويم والتصويب والتعديل والتغيير والتطوير لمواكبة الواقع الذي يعيش فيه الناس. [ ص: 101 ]

            إن مأساتنا الفكرية المزمنة تتمثل في أننا لن نراجع - في الغالب الأعم - قضايانا وشؤوننا بإرادتنا، وبرغبة صادقة منا، حتى إذا ما طولبنا بها بحق وبدونه، تسارعنا إلى الإذعان والخضوع، وهذه منهجية في التغيير والترقي لا بد للأمة من التخلص منها، ولا بد لنا من التفكير الجاد والتخطيط المتمعن في كل ما نقدم عليه من عمل، بل لا بد لنا من مواظبة محاسبة أنفسنا ونقد ذاتنا بإرادتنا وبطريقتنا وبالكيفية، التي نريد ونسعى إليها؛ وفي ذلك صلاحنا وصلاح أمرنا وأمر أمتنا جميعا.

            إن تعهـد مناهج العلوم الإسلامية بالمراجعة والتطوير فالإصلاح ينبغي أن يكون ذلك منهجا ثابتا ومستمرا لا يجوز التوقف عنه، إذ إن التوقف عن المراجعة المستمرة والإصلاح الدؤوب للمناهج يعني التوقف عن المشاركة الفعالة في الفعل الحضاري، كما يعني التوقف عن الإسهام في تحقيق الشهود الحضاري والتـرقي والنهضة والتقـدم للشعوب الإسلامية.

            وفي مقـابل هذا، فإن المداومة على إصلاح المناهج وتطويرها والنهوض بها ومواكبتها لما يستجد في العالم من معارف وخبرات وتجارب وأساليب، يعني ذلك تمكين الأجيال من المشـاركة الفاعـلة والفعالة في الفعـل الحضاري، والحفاظ على منجزات الآباء ومـكاسب الأجـداد، ومنهـج السلف الصالح في الاستفادة من كل ما من الله به على الخلق. [ ص: 102 ]

            ومهما يكن من شيء، فإننا نخلص إلى القول:

            إن إصلاح مناهج العلوم الإسلامية يمثل اليوم إحدى القضايا المحورية الأساسية، التي تحتاج إليها الأمة في هذا العصر، وتعد أحد أهم هموم الإصلاح الشامل للحياة، ذلك الإصلاح الذي يدعو إلى أن ".. تواكب قدرة العقل والفكر والمنهج المسلم حاجة الأمة والتحديات التي تواجهها، وأن تقدم لها الطاقة والزاد الفـكري، والرؤية، والمناهج الفكرية والحضارية اللازمة لإنجاح مسيرة جهود بناء مرافقها وأنظمتها. فالأمة لا ينقصها الإخـلاص ولا القيم ولا القدرات البشرية أو المادية؛ ولكنها تحتاج إلى فكر سليم، ومنهج متكامل قويم، ورؤية واضحة تسير على هداها، وتسعى إلى تحقيقها، وتنشئ أبناءها على مقتضاها..

            إنه دون إصلاح مناهج الفكر، وتحقيق رؤية أصيلة واضحة لن يستقيم جهد، ولن ينجح عمل، ولن تفيد تضحية. هذا ما نشأت عليه حضارة الإسلام، وما قامت عليه الحضارات الأخرى من قبل..

            وإذا كان لا يصـح للمرء المسـلم أن يتـكرر عليه الدرس، فلا يتعظ ولا يرعوي، فقد تكررت الدروس والعظات والتجارب، وآن لنا أن ندرك أولوياتنا، وأن لا نهمل الأسس، مهما كان إلحاح الأحداث، وهجمات التصدي، التي تصرفنا عن إعادة بناء الطاقة التي يتولد عنها الجهد الصحيح بالقدر الصحيح في الاتجاه الصحيح.. [ ص: 103 ]

            فالإسلامية بمفهومها الشامل إطار للحياة الإنسانية والحضارة والإعمار البشـري، وغاية كل نشـاط وجهاد وعمل وتنظيم اجتماعي إسـلامي، غاية واحدة، ومسيـرة واحدة، ولا يصح إهمال أي جانب منها، أو التقليل من شأنه.." [1] .

            وعليه، فإنه من الواجب العلمي على كاهل علماء الأمة بذل ما في وسعهم من أجل تجديد عناصر المناهج، أهدافا ومحتويات وأساليب وطرقا، ولن يقبل منهم غير ذلك، بحسبانهم مسؤولين أمام الله عن توقيع أحكامه جل وعلا على المكلفين! [ ص: 104 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية