ثالثا: دور التعليم في تحقيق التفاعل الحضاري:
العلم هو الوسيلة الأولى لبناء الحضارات بناء واقعيا في كل مجال من مجالاتها، لذلك اشتغل به المسلمون، تعلما وتعليما، فتعلموا كل صالح مفيد، ونقلوا ما عندهم من دين وعلوم ومعارف ومنجزات إلى الحضارات الأخرى.
كما أن غير المسلمين أدركوا أن وسيلة التعليم هي أنفع وأجدى وسيلة لتحقيق التفاعل الحضاري والتأثير في المسلمين وإقناعهم بالثقافة الغربية [ ص: 82 ] المادية [1] ، وكان هو السلاح، الذي "تتوقف نتيجته على من يمسكه بيده، وعلى من يضرب به" [2] .
ومن هنا حرص الكل على الاستفادة من هذه الوسيلة، والبحث عن أفضل آلية للتعلم والتعليم، فوجدوا أنها تتم إما عن طريق المؤسسات التعليمية المحلية، من مدارس ومعاهد وجامعات، أو عن طريق الابتعاث إلى المدارس والمعاهد والجامعات الخارجية، وفيما يلي بيان لهاتين الآليتين:
الطريق الأول: المؤسسات التعليمية المحلية:
تضطلع المؤسسات التربوية والتعليمية المحلية بدور كبير في تحقيق التفاعل الحضاري، سلبا أو إيجابا، ذلك أن هذه المؤسسات تسعى إلى تقديم برامج وأفكار ومعتقدات مؤسسيها وواضعيها، لذا فإن الأنظمة التعليمية في العالم موجهة وفق عقائد ومفاهيم واضعي سياساتها، ولهذا فقد اختلفت الأسس، التي يقوم عليها التعليم عند المسلمين، والأسس التي يقوم عليها التعليم عند غير المسلمين، تبعا لاختلاف عقائد ومفاهيم أصحابها.
وعليه، فإن التعليم عند المسلمين يقوم بالأصل على الأسس الآتية [3] :
1- إيجاد جيل يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر، لأنه تعليم يأتي عن طريق دين رباني صحيح. [ ص: 83 ]
2- الاستـقامة على دين الحـق، المثـل العـليا، التي جـاء بـها الإسلام لقيام حضارته.
3- الالتزام بأخلاق الإسلام وقيمه ومبادئه على أساس الكتاب والسنة.
4- مراعاة الفطرة الإنسانية والغرائز البشرية المودعة في الإنسان.
وحيـث أصبح من المحتـم تقديـم تلك الأفكار والمفاهيم للتنشئة بطريقة أو بأخرى، لم يكن من سبيل أمام المجتمع المسلم، وأي مجتمع وأصحاب حضارة، إلا أن يتخذوا من المؤسسات التربوية وسيلة لتحقيق ذلك، ومن هنا "بدأت التنشئة الرسمية تحتل مكانها من خلال مؤسسات تربوية عديدة، وإن كانت المدرسة واحدة من أهمها" [4] .
وكان كثير من المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية والعربية تضطلع بدور كبير في تحقيق التفاعل الحضاري والثقافي، مع الأمم والحضارات الأخرى، حيث إنها تستقطب أعدادا هائلة من أبناء العالم، وتقدم لهم المنح الدراسية، ولا شك أن هؤلاء الطلاب ينقلون إلى بلدانهم بعد تخرجهم شيئا من التعاليم والثقافة الإسلامية، كما ينقلون أيضا بعض العادات والتقاليد الإسلامية والعربية [5] .
فالتعليم الإسلامي يقوم بتعريف الآخرين بالدين الإسلامي الحنيف، وتعاليمه وحضارته، وتصحيح النظرة السلبية لدى بعضهم عن الإسلام [ ص: 84 ] والمسلمين، وذلك عن طريق المراكز والمساجد والجمعيات والأندية الطلابية الإسلامية في الجامعات ومؤسسات التعليم المختلفة والتي انتشرت في الآونة الأخيرة ولله الحمد، فإن ذلك كله يمكن أن يحقق شيئا كثيرا من التفاعل الحضاري لصالح الإسلام والمسلمين.
وفي المقابل نرى أنه كان من الطبيعي للقوى، التي وقفت موقفا عدائيا من الأمة الإسلامية أن تتوسل بالتعليم طريقا للغارة على المقومات الأساسية المكونة للذات الحضارية للأمة الإسلامية، فبدأت تؤسس المدارس، والمعاهد، والجامعات، داخل العالم الإسلامي، وقد عرف هذا النوع من التعليم بالتعليم الأجنبي [6] .
وقد ألغى التعليم الأجنبي اللغة العربية إلغاء تاما، وحل محلها اللغات اللاتـيـنـيـة، وحـرص عـلى تسـيـيـد اللغـة الإنجـليزية، أو الفرنسيـة، أو الإيطاليـة، أو غير ذلك من اللغات اللاتينية.
الطريق الثاني: الابتعاث أو الدراسة في الخارج:
يعود تاريخ الدراسة في الخارج إلى عصور قديمة، فمنذ "أن عرف الإنسان الحضارة، والرحلة في طلب العلم -بأشكالها المختلفة- تقليد من تقاليده العريقة، يتجشم من أجلها الصعاب، ويترك بسببها الأهل والأصحاب، ويقدم في سبيلها التضحيات المادية والشخصية والاجتماعية" [7] . [ ص: 85 ]
ولقد أكد المنهج الإسلامي أهمية الرحلة في طلب العلم، ويمكن "أن تعد الآيات، التي وردت بالأمر بالسير في الأرض مما يدخل في استخدام الرحلة وسيلة تعليمية، فقد أمر الله عباده بالسير في الأرض، وهو أمر يقتضي الارتحال من مكان إلى آخر، أما الهدف من هذا السير، فهو التأمل، والتدبر، واستنتاج الموعظة، والاعتبار، فليس السير في الأرض مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة يتعلم منها كل من حاول التكذيب والكفر، ويتعظ بما آل إليه مصير المكذبين على الرغم من عظم قوتهم، ويكفي المرء أن يفتح المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم تحت مادة (سار) ومشتقاتها: (يسيروا) و (سيروا) ليجد أمثلة كثيرة من الآيات الواردة في هذا الصدد" [8] .
وهكذا، فقد تزامنت الرحلة في طلب العلم مع بداية التشريع الإسلامي، ومنذ الصدر الأول من الإسلام، وتفرق "علماء الصحابة في الأقطار المفتوحة عقب فتحها؛ ليعلموا الناس شؤون الدين؛ وليقرئوهم القرآن، ويرووا لهـم الأحـاديث، وأقام كل واحـد من هـؤلاء مركزا علميا بالبلد الذي نزل فيه.." [9] . [ ص: 86 ]
لقد ضرب الصحابة، رضوان الله عليهم، أكباد الإبل في فجاج الأرض شرقا وغربا بهمم عالية، ونفوس سخية راضية، بحثا عن العلم، وتحصيلا للمعرفة.. ومن أشهر رحلات الصحابة العلمية: رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه من المدينة إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه في الشام لطلب حديث المظالم [10] ؛ ورحلة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه من المدينة إلى عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في مصر، لطلب حديث الستر على المسلم [11] وقد بوب البخاري باب: "الرحلة في المسألة النازلة" كما بوب أيضا لرحلة موسى، عليه السلام، مع الخضر باب: "الخروج في طلب العلم".
ولـم يزل السـلف والخـلـف من الأئمـة يعتـنـون بالرحـلـة، قـال سعيـد ابن المسيب، رحمـه الله [12] : "إن كنت لأغيـب الليـالي والأيام في طلب الحديث الواحد" [13] .
فالرحلة أسلوب من الأساليب التربوية المهمة في التربية الإسلامية، إلا أنها "لم تكن تحت إشراف الحكومات، كما أنها لم تكن منظمة وجماعية ولأغراض [ ص: 87 ] مستقبلية تنموية، بل كانت رحلات اختيارية يقوم بها الأفراد بدافع من رغبتهم الشديدة في مزيد من التحصيل العلمي، أو المعرفي، الذي لا يتوفر عادة في بلدانهم" [14] .
والابتعاث ما هو إلا مظهر من مظاهر الرحلة العلمية، فقد عرف بأنه: "انتقال الطالب من بلدة إلى أخرى؛ لتلقي العلم مباشرة عن أستاذ كبير في مادة من المواد" [15] .
ويتضح أثر الابتعاث في تحقيق التفاعل الحضاري جليا في تأثر الغرب بالحضارة الإسلامية إبان تألقها وازدهارها، حيث كانت الأندلس "مجمعا للعلماء الأوروبيين، الذين جاءوا من كل صوب من بلاد أوروبا؛ لينهلوا من علوم المسلمين وآدابهم، وترجموا إلى لغاتهم كتب المسلمين في الفلك، والرياضة، والطب، بل إن أحدهم أكد في محاورة مع ابن أخيه - وكان تعليمه في جامعة إنجليزية محلية- كيف أن التعليم على أيدي الأساتذة العرب أكثر فائدة وأكبر جدوى من التعلم في جامعات إنجلترا، فقال: "إنني وقائدي العقل، قد تعلمت من أساتذتي العرب، غير الذي تعلمته أنت" [16] ، بل كان الأمراء والوجهاء من [ ص: 88 ] الغرب يذهبون إلى الأندلس "بحثا عن العلاج، أو رغبة في الوقوف على الفنون ومظاهر الحضارة الإسلامية" [17] .
وتميزت الفتوحات الإسلامية بنقل الحضارة والعلوم إلى أوروبا، وتم فتح الجامعات الإسلامية أمام كل طالب علم، بغض النـظر عن جنسه، أو دينه، أو عرقه، تشهد بذلك جامعات الأندلس، وبغداد، وصقلية، ومصر، وغيرها، تلك الجامعات، التي قامت بتدريس العلوم المختلفة [18] .
وقد "سجل الشعر العربي بأن البابا سلفستر، الذي زار القرويين نهل من علومها، وقد أشار إلى ذلك الشيخ المدني بن الحسين في قصيدة... قصيدة قديمة جدا، كان المسلمون يعلمون أن الراهب قد جاء ليتعلم في جامعاتهم" [19] .
وقد توجه علماء الإسلام وبتشجيع من تعاليم الإسلام لنهل العلوم من مصادرها المختلفة، اليونانية والشرقية، ثم قاموا بتطوير تلك العلوم وابتكار علوم جديدة أخرى في مجالات متعددة، وقد تم ذلك كله دون أن يتأثر المسلمون بعقائد وعادات الحضارات الأخرى. [ ص: 89 ]
وفي العصر الحديث، الذي تراجع فيه المسلمون وأصبح التقدم العلمي والتقني بيد الغرب "قام طلاب العلم من شتى أصقاع المعمورة، بتنظيم الرحلات إلى مصادر هذا العلم؛ ليتعلموا لغته، وينهلوا من معينه، ويتخصصوا في علومه، باحثين عن التقدم والتطور لهم ولمجتمعاتهم، وقد عرفت ظاهرة الرحلة في العصر الحديث بـالدراسة إلى الخارج أو الابتعاث" [20] ، وقد اقتضت تلك الرغبة في مواكبة السير الحضاري وجود مجموعات من أبناء المسلمين في أوروبا وأمريكا لتلقي التعليم والخبرات، مبعوثين من حكوماتهم ومؤسساتهم داخل بلادهم [21] .
ولقد شجع الغرب وسيلة الابتعاث؛ ليكون منفذا قويا للتأثير في الأمم الأخرى، وذلك لعلمه أن الابتعاث من أفتك الأسلحة، التي تسهل عملية التجانس والتطابق في التفكير [22] .
ومما يبين خطورة الابتعاث وأثره في التفاعل الحضاري أن العائدين من البعثات الخارجية إلى البلاد الإسلامية يكون لهم "زمام المبادرة في شغل المناصب العليا، ذات التأثير الإداري، والثقافي، والأدبي، والسياسي، بل والديني أحيانا، وتلمع هذه المجموعات المتخرجة من الجامعات الأجنبية، وتعطى الهالة [ ص: 90 ] الإعلامية، وتساند بعضها في المناسبات العلمية والثقافية والأدبية وغيرها" [23] ، وبعد تولي هـؤلاء زمام الأمور في بلادهم، واكتسابهم ثقة الناس لما يتوقع منهم من الإسهام في تنمية البلاد بجهودهم العلمية، التي اكتسبوها من البعثات، عندها يبدأ بعضهم في تنفيذ أهداف ومخططات، بل ومعتقدات وأفـكار المـدارس والمـعـاهـد والجـامعـات، الـتي يـنـتـسبـون إليـها، اشـتـراكية كانت، أم رأسمالية، أم علمانية، وبهذا أصحبت الدول الإسلامية متأثرة بالغرب في معتقداته وعاداته وأفكاره، عن طريق أمثال هؤلاء.
- ضوابط الابتعاث:
ومع أن الابتعاث جائز ومباح في أصله، إلا أنه نظرا لآثاره المدمرة، وسلبياته المهلكة، فقد وضع منهج التربية الإسلامية شروطا وضوابط للابتعاث، ومن أهم هذه الضوابط:
1- أن يكون الابتعاث لضرورة أو لحاجة ماسة، كطلب علم أو تخصص لا يوجد أو هو نادر في بلاد المسلمين، ولهذا يجب أن يتخصص الطلاب المبتعثون بالعلوم البحتة التطبيقية، التي تحتاج إليها أمة الإسلام، دون غيرها من العلوم والتخصصات [24] .
2- أن تتحقق في الطالب المبتعث الحصانة القوية: من التقوى، والصـلاح، والـذكاء، والعـلـم، فـمـن عرف عنـه التهاون بأحـكام الـدين، [ ص: 91 ] أو الانحراف في فكره أو خلقه، فلا يجوز بعثه، وينبغي أن يكون الطالب متزوجا ليصطحب أهله في سفره [25] .
فالتعليم وسيلة من أهم وسائل التفاعل الحضاري، فمن خلاله، يتم:
1- احتكاك الطلاب مع أفراد المجتمع، الذي يتعلمون منه، حيث يؤدي الاحتكاك إلى تبادل الثقافات بين الأمم، مما يؤثر، سلبا أو إيجابا، على عادات ومعتقدات وثقافات الشعوب.
2- التعرف على تاريخ وحضارات الأمم، وعاداتهم وأديانهم.
3- توطيد عرى الصداقة، وزيادة فرص التعاون مع المجتمعات الأخرى.
ويتمثل دور التربية ورجال التعليم، في تحقيق التفاعل الحضاري الإيجابي واجتناب السلبي منه، في:
1- تبصير الأفراد والمجتمع بأهمية التعليم وخطورته، حيث يكون التعليم مهما لنقـل التـكنولوجيا، وزيادة المخـترعات، وتطـوير جميع مناحي الحياة، كما أن له خطورته في نقل أفكار ومعتقدات واتجاهات مناقضة للإسلام.
2- تطوير أهداف وبرامج المراحل الدراسية، والإفادة من الجوانب المادية والعلمية، التي عند الأمم الأخرى [26] .
3- ضبط الابتعاث إلى الغرب بالضوابط الشرعية، ليكون العائد منه لصالح الأمة. [ ص: 92 ]
4- تعزيز التربية الإسلامية الحقة بإدراجها في كل مراحل المنهاج الدراسي، وينبغي عند تدريسها اعتماد الطرق والتقنيات الحديثة، التي تضفي عليها نوعا من الجاذبية وتضمن لها الفعالية [27] .
5- إضفاء الطابع الإسلامي على التعليم، وذلك بتدريس كل المواد المقررة من وجهة نظر إسلامية، مع التركيز على التاريخ الإسلامي وجغرافية العالم الإسلامي والثقافة والحضارة الإسلاميتين ودورهما في إغناء التراث الإنساني [28] . ويجب أن تتعامل الاستراتيجية التربوية الإسلامية مع العلوم والتكنولوجيا باعتبارها إحدى المكونات الأساسية للحضارة المعاصرة... [29] .
6- التمسك بالعربية لغة للعلم في كل مراحل التعليم، وفي كل فنونه المختلفة، لمواجهة الغزو الثقافي الوافد من الغرب، الذي يسعى للتقليل من قدرتها على مواكبة التقدم والتقنية والحضارة في عصر العلم والمدنية، علما بأن "الأمم لا تحيا إلا بإحياء لغتها والاعتزاز بها، وجعلها لغة التربية والتعليم، ولغة العلم والتقنية..." [30] . [ ص: 93 ]