المبحث الثاني
جمالية التصوير والتشخيص
ترد الصورة في كلام العرب على معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته، والمصور من أسماء الله الحسنى، الذي صور جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة وهيئة مفردة يتميز بها، على اختلافها وكثرتها [1] . ويعتبرها قدامة بن جعفر الوسيلة أو السبيل لتشكيل المادة وصوغها، شأنها في ذلك شأن غيرها من الصناعات [2] .
وهي مصطلح عام وشائع اهتمت به مجموعة من العلوم، واستخدمه النقد الأدبي، قديما وحديثا، يقول الجرجاني: "واعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك منه، كذلك الأمر في المصنوعات، فكان بين خاتم من خاتم، سوارا من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقا، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: المعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك. وليس [ ص: 105 ] العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: "وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير" [3] ، الأمر الذي يعني أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء، الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار.
فكما أن محالا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب، الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه [4] .
أما التشخيص لغة فهو يدل على الارتفاع والظهور [5] ، وفي الاصطلاح فهو إسناد صفة من يعقل، أي الإنسان، إلى ما لا يعقل من المحسوسات والمعنويات، بحيث تبدو وكأن لها حواس الإنسان ومشاعره، ومخاطبة ما لا يعقل بخطاب من يعقل وتقديمه في صورة معينة [6] . [ ص: 106 ]
ولعـل الفـراء قـد أشـار إلى هـذا النـوع من التصـوير في تعليقـه على قوله تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ) (البقرة:31) فقال: "عبر عن الأسماء بلفظ العقلاء" [7] .
وبما أن للنص الأدبي تركيبته الخاصة، فإنه يمنح التصوير مجالا للتكوين والنمو، لذا كانت بلاغة التصوير جمالية معجزة في القرآن الكريم، خاصة في القصة، حيث يشكل مكونا رئيسا فيها، تتحرك من خلاله الصورة وتقدم فضاءات جمالية ودلالية للتأمل والتدبر. فهو يمثل الأداة المفضلة والشائعة في القصة القرآنية، إذ "يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثـم يرتـقي بالصـورة التي يرسمها فيمنحهما الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية مجسمة مرئية.. أما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل" [8] .
ولما كانت قضايا وموضوعات القصة في القرآن الكريم بمثابة تشخيص أنموذجي للقضايا، التي يقـدمها، وعرض حي لموضـوعاته، فإنـها لا تفصـل [ ص: 107 ] ولا تفيض في الأحداث أو الشخصيات إلا بقدر ما تحدث في النفس من أثر، وما تهز به أعماقها، لتطلعها على حقائق الحياة والوجود، وما من شأنه أن يتناسب مع أهداف القرآن الكريم وغاياته.
فالإتيان بنمـاذج من الأمم السابقة، وقص جوانب من حياتهم، وانتخـاب مواقف وأحداث تظهر معادن الشخصيات ومواقفها في مواطن القوة والضعف، ومنازع الإحسان والسوء فيها، وتصوير رؤاها وقيمها ومفاهيمها وقناعاتها، ليسـت سوى رسم تشخـيـصي للحيـاة الإنسـانية عبر مراحلها، ابتداء من الخلق الأول، وما يطبعها من سموق وهبوط، من تأييد أو اعتراض، من هدي أو ضلال، لكل ما جاء في القرآن الكريم من الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض على وجهها الأكمل بعبادة الله عز وجل.
فتصوير الشخصية أو الحدث أو الموقف أو غير ذلك، مهما كانت وظيفته في حركة الحياة وسيرورتها وجمالها أيضا، يمثل شاهدا من شواهدها، وملمحا يؤكد أبعادا وإفادات متجددة.
وهذه جملة من الصور الجميلة، التي تترك أثرا مبهرا في نفسية المتلقي ووجدانه وعقله.
يقول تعالى في سورة يونس مصورا النفس البشرية في سرد قصصي بديع: ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون * هو الذي يسيركم في [ ص: 108 ] البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) (يونس:21-23).
يفتتح الله تعالى هذه الصورة القصصية ببلاغة لطيفة، يسند فيها الرحمة له سبحانه، ويسند المساس إلى الضراء، وهي إشارة إلى أن ما يصيبهم من شر يكون نتيجة أعمالهم، ويأتي جواب الشرط ( إذا لهم مكر في آياتنا ) ليقرر حالتهم بعد الرحمة.
وقد نزلت الآيات في كفار قريش، حيث سلط الله عليهم الجدب والقـحـط حـتى خـافوا الهـلاك، فـجـاؤوا إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ليدعو لهم وقد وعدوه بالإيمان، فلما رحمهم الله رجعوا إلى كفرهم وعنادهم ومكرهم بآيات الله [9] .
يقـول ابن عـاشور في تفسـير هـذه الآية: "ومعنى مكرهم في الآيات أنهـم يمـكرون مـكرا يتـعلق بـها؛ وذلك أنـهم يوهمون أن آيات الله غير دالة على صـدق الرسـول محمد صلى الله عليه وسلم وزعمـوا أنه لو أنزلـت عليهـم آية [ ص: 109 ] أخـرى لآمنوا، وهـم كاذبون في ذلك، إنما يكذبون عنادا ومكابرة وحفاظا على دينهم في الشرك" [10] .
ثـم يأتي عز وجـل بصـورة حـركية يؤكد فيها القدرة الإلهية المهيمنة على الحركة والسكون في البر والبحر: ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ) ، لتتوالى الصور القصصية بعد ذلك، تحكي عن فرح أهل السفينة والريح الطيبة تجري بهم في أمان وطمأنينة، لكن يفاجأ المتلقي باضطراب السفينة، واستبدال الـذعر بالأمن والغم بالفرح، بعد أن هبت الرياح العاصفة، وضربتها الأمواج من كل جانب.
ولما يتيقن المشركون أنه الهلاك والغرق، تأتي صورة أخرى تعبر عن فطرتهم، التي تلجئـهم إلى الله في الشـدائد، "فجملة ( دعوا الله مخلصين ) جواب ( إذا ) ، ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم. وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم، بـل تلك حـالتهم في الدعاء عنـد الشـدائد. وهـذا إقـامـة حجة عليهم ببعض أحوالهم" [11] .
ثـم تـأتـي مفاجأة أخرى بصورة متحولة، حين ينجيهم الله فيشركون به ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) ، وأتى الله تعالى [ ص: 110 ] بحرف إذا الفجـائية في جواب لما للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة [12] .
وتنتهي الصورة الكلية بتذييل يكنى بالإنباء عن جزاء البغي والظلم والشـرك، وإفـادة الاختـصاص، تنزيلا للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله [13] .
إن هـذه الصـور المتـتـالية المفعمـة بالحـركة والتوتر وتغير الأحوال والهيئات تشخيص مبهر، وفر له تعالى من البلاغة ما يجعل المتلقي يعيش مراحلها المتنوعة.
ومن بديع ذلك أن الآية "لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمير الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء، وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين، فقال: ( وجرين بهم ) على طريقة الالتفات، أي جـرين بـكم. وهـكذا أجـريت الضمائر جـامعة للفريقين إلى أن قال: ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) ، فـإن هذا ليس من شيم المؤمنين، فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر [ ص: 111 ] من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلا على القرينة؛ لأن الذين يبغون لا يشمل المسلمين" [14] .
وهذه التلوينات البلاغية أضفت على الصور القصصية مزيدا من الحيوية والجمال، حيث الإقناع العقلي والإيحاء النفسي، بالإضافة إلى إبراز مواقف فئة من البشر المتغيرة حسب حالاتهم ومصالحهم.
ومن الصور القصصية، التي تسرد مشهدا عجيبا، وتحيط بالحالة من كل جوانبها ببلاغة معجزة قوله تعالى بعد تقديمه تلخيصا لقصة أهل الكهف: ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ) (الكهف:17-18).
فالفتية في فجوة من الكهف، تحيط بهم كل أسباب الحياة، الشمس عند الشروق والغروب تميل عليهم، كأن لها إرادة في عملها، ويتقلبون يمينا وشمالا، كي لا يضرهم البقاء على جنب واحد، وكلبهم نائم أمامهم كأنه يحرسهم، والإتيان بالمضارع في ( ونقلبهم ) للدلالة على التجدد، لو اطلع عليهم أحد لولى فرارا من شدة الرعب. [ ص: 112 ]
والصورة القصصية مفعمة بظلال نفسية، تشخص حالة أهل الكهف بدقة، وتتضافر عناصر عدة للتأثير بها على المتلقي، كصيغ المضارع والمبالغة والاستعارة وغيرها من الأساليب البلاغية.
ولعل أبلغ الصور التشخيصية، تلك التي وردت في قصة نوح، حين قال تعالى: ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) (هود:44).
ويتمثـل الـتـشـخـيـص في نداء الأرض والسماء بما ينادى به الإنسان، ثـم أمـرهمـا الله تعـالى بمـا يـؤمـر به أهل التمييز والعقل. وبناء فعل قيل للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول، لإضفاء السرعة على الصورة؛ "لأن مثله لا يصدر إلا من الله. والقول هنا أمر التكوين. وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلق أمر التكوين بكيفيات الأفعال في ذاتيتهما وانفعالهما بذلك كما يخاطب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالا وخشية. فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعية" [15] .
والصورة جاءت على وجه الحقيقة وليس المجاز، للتدليل على عظمة المنادي، وسرعة استجابة المنادى. فالسماء والأرض امتثلتا لأمر الله كي ترسو السفينة بسلام، وكأن هذه الآية جاءت لتجسد قوله تعالى: ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) (يس:82). [ ص: 113 ]
وبذلك تكون الآية أنموذجا للتصوير البليغ، الذي تضمن في كلمات قليلة أمرا ونهيا وإخبارا ومناداة ونعتا وتسمية وإهلاكا وإبقاء وإسعادا وإشقاء وقصصا [16] والذي كشف عن اقتصاد وإيجاز على مستويات ثلاثة: صوتي ولغوي ونحوي، وفي المقابل نجد اتساعا وشساعة في الدلالة والجمال، ما يحقق المتعة والفائدة.
وفي قصة زكريا الواردة في سورة مريم، يقدم الله عز وجل مشهدا مؤثرا، يصور فيه عبده حين يلجأ إليه داعيا، شاكيا ما ألم به من ضعف وقلة حيلة، تم إجابته تعالى للدعوة، وإن انقطعت الأسباب، تصويرا لرحمة الله ولعظمته وقدرته، وأن لا ملجأ منه إلا إليه، وذلك في قوله تعالى:
( ذكر رحمت ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) [ ص: 114 ] ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) (مريم:2-15).
وقد مهد الله عز وجل لهذه الصور القصصية بتأكيده على رحمة الله وسعة إحسانه بعباده، وبتقديمه لآداب الدعاء، حين ذكر نداء زكريا لربه نداء خفيا. ثم تلا التمهيد مباشرة دعاء زكريا، الذي جمع بين الصورة المادية المحسوسة وبين الصورة المعنوية والنفسية، فهو زاوج بين ضعف عظمه وانتشار بياض الشيب في رأسه انتشار النار في الهشيم وعقم امرأته، وبين خوفه من الموالي أن يضيعوا شريعة الله، يقول ابن كثير، في تفسيره: "وجه خوفه: أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا، فسأل الله ولدا، يكون نبيا من بعده؛ ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه، فأجيب في ذلك".
وحين جاءت البشرى لزكريا عاد يسأل ربه في صورة خاشعة، طلبا للطمأنينة، وإظهارا للتعجب من قدرته، مثلما سأل إبراهيم ربه: ( أرني كيف تحيي الموتى ) (البقرة:260)، وجاء الجواب، الذي يفتح للمتلقي صورا شاسعة من قدرة الله تعالى على الخلق والإبداع والاستجابة، والإشارة إلى أن خزائن الله تعالى لا تعد ولا تحصى، وما على العبد إلا الإذعان له عز وجل، المصاحب بالعمل الصالح كي يمنح عطاءه، فزكريا دعا الله أن يرزقه ولدا [ ص: 115 ] مرضيا، فاستجاب له ربه بمنحه ولدا يجمع عددا من الصفات الحسنة، التي تجاوزت ما طلبه.
وقصة زكريا في هذه السورة وردت عبر صور بلاغية جميلة، عبرت عن حالته الواقعة بين الخوف والرجاء، اتخذها كثير من البلاغيين مناط تحليلهم، لما تثيره في ذهن المتلقي من حركات تخييلية، ولمسات بيانية تكشف عن عظمة الخالق الرحيم، ومدى حاجة الإنسان إليه في جميع حالاته. وختمها عز وجل بمـخـاطـبـة يحـيى بشـكل مفاجـئ: ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) ، ثم بالعدول عن مخاطبته للحديث عن ذاته العلية، التي سوت يحيى بصفات معينة، ( وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ) ، وهذا التغيير في أسلوب الخطاب يحدث هزة نفسية وفكرية للمتلقي بحجم الدلالات، التي توحي بها الصورة.
وإذا كانت قصة زكريا وردت على شكل صور حوارية، فإن قصة مريم، الـتي حمـلت السـورة اسمـها، زاوجـت بين السرد والحوار. وأول ما قدم به السرد القرآني مريم صورتها وهي في حالة استقرار وطمأنينة، حيث اتخذت لنفسها مكانا منعزلا، تخلو فيه مطمئنة دون أن يراها أحد، يقول تعالى: ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) (مريم:16-17). [ ص: 116 ]
ويكسر السرد هذا الاستقرار بانتقاله على نحو مفاجئ إلى حدث غير متوقع لمريم، فها هي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها بنفسها، حين تجد نفسها أمام رجل كامل. ومن هول المفاجأة تنتفض مريم، وتلجأ مباشرة إلى الله تعالى تستعيذ به وتستنجد، وفي الوقت نفسه تحاول إثارة مشاعر التقوى في نفس الرجل، الذي فاجأها فتقول: ( إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) (مريم:18)، وهنا يتحول السرد إلى مشهد حواري غريب، فيبادر الرجل بمفاجأتها المفاجأة الأخرى فيقول: ( إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ) (مريم:19)، فتسأله بتعجب ودهشة عبر صورة صريحة: ( أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ) (20)، أي تسأل كيف يمكن أن تأتي بالولد وهي منعزلة عن الناس ولم يمسها أي واحد، وليست بذات زوج، ولا يتصور منها الفجور والبغي، فيجيبها الرسول المرسل من الله تعالى: ( كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا ) (21)، فـأمـر الحـمـل والـولادة لـم تتصور مريم أن يحدثان إلا بالاتصال المباشر بين المرأة والرجل، لكن في حالة مريم، عليها السلام، كان ذلك على الله هين وسهل، لأن قدرة الله تقول للشيء كن، فكان منها غلاما زكيا هو عيسى، عليه السلام، دون نطفة كما هو شأن كل البشر.
وينتهي الحوار بين الرسول المرسل من الله تعالى وبين مريم. ولا يذكر لنا السياق القرآني سوى أن حملها ( وكان أمرا مقضيا ) (مريم:21)، أي أن هذا الغلام، الذي سيكون آية للناس ورحمة من الله قد انتهى أمر حمله، وتحقق [ ص: 117 ] وقوعه، أما كيف حصل ذلك فلا يذكر القرآن الكريم عن ذلك شيئا؛ لأن السرد القرآني يختصر الأزمنة، ويطوي الأحداث فلا يذكر منها إلا ما يفيد السياق والغرض من القص.
ثم يمضي السرد ليعرض مجموعة من الصور القصصية، يقول تعالى: ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) (مريم:23)، فهـذه الصـورة تكشف عن الهـزة، التي انتابت مريم العذراء وهي تحمل بسيـدنا عيسـى، عليهمـا السـلام، وتتخـيـل هـول المواجهة، التي ستواجه بها المجتمـع وحيدة، لأنها كانت تعرف أنها سوف تبتلى وتمتحن بهذا المولود من قبل قومها.
وإلى جانب هذه الآلام النفسية، التي تنتابها من المواجهة، يجيئها المخاض، وتنتابها الآلام الجسدية، آلام الولادة، فتستند إلى جذع النخلة، تتكئ عليها، تعاني من الآلام والأحزان حتى تتمنى الموت، وتقول: ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) ، وفي غمرة الآلام والوحدة والخوف تقع لها المفاجأة الكبرى، يقول تعالى: ( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) (24-26). [ ص: 118 ]
هذه هي المفاجأة، التي هدأت من روع وحزن مريم، فقد سمعت طفلها يتـكلم من تحت النخلة، التي ولدته إلى جوارها، وقال لها من تحت النخلة أن لا تحزني لهذا الأمر، قد جعل الله لك جدولا يجري أمامك، وحركي جذع النخلة فيتساقط عليك الرطب الطري الشهي، أي الثمرات الناضجة، وكلي منها كي تتقوي، وبالإضافة إلى التمر طلب المولود من مريم أن تشرب الماء العذب، الذي جرى تحتها، وأن تطيب نفسا ولا تحزن، كما طلب منها إذا رأت أحدا من الناس وسألها عن شأن المولود فلتقل له "إني نذرت السكوت والصمت لله تعالى ولن أكلم أحدا من الناس". ولتدع لله تعالى الباقي.
وحين تسمع مريم هذا الكلام، تنزل عليها السكينة والطمأنينة، فتأكل وتشرب، وتقر عينها، ويذهب روعها وحزنها، وتعلم أن ما حدث معجزة فضلها الله تعالى بها ولن يخذلها عز وجل. واتبعت مريم ما طلب منها، ولم تكد تلمس جذع النخلة حتى تساقط عليها ثمرا شهيا.. فأكلت وشربت ولفت الطفل في ملابسها، وخرجت به من خلوتها، ولاحظ الناس أنها تحمل طفلا، تضمه لصدرها وتمشي به، ولا شك أن قومها انتابتهم حيرة وتساؤلات كثيرة حول ما شاهدوا، حسمـوها باتـهام صـريح لهـا كما جاء في القرآن الكريم: ( يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ) (مريم:28)، وتنتابهم الدهشة، فيسألون في تعجب واستنكار: ( يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ) (مريم: 27- 28)، إن الهزة أطلقت ألسنتهم بالسخرية والتهكم [ ص: 119 ] على (أخت هارون)، وفي تذكيرها بهذه الأخوة ما فيه من مفارقة، فهذه حادثة في هذا البيت لا سابقة لها، لذا أشاروا إلى أبويها.
وتتصاعد وتيرة الحدث وتتأزم، ومريم تخلد للصمت في مواجهة الاتهامات، وتشير إلى طفلها، ويبدو أنها كانت مطمئنة لتكرار المعجزة أمامهم، لكن القوم يزداد تعجبهم واستنكارهم، وهم يرون عذراء تواجههم بطفل كي يكلمهم، ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) (مريم:29) [17] .
وفي مشـهـد مثـير تـكلم ذلك الغـلام مبعدا عن أمه كل خطيئة، مـظـهرا طهـرها وعـفتـهـا ومـكانـتـهـا عنـد الله عـز وجـل: ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) (مريم:30- 33).
وتنتهي قصة مريم في القرآن هنا، يختمها عز وجل بقوله: ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) (34-36)، ليؤكد عبودية عيسى ومريم له تعالى، وأن عبادته وحدها هي الصراط المستقيم، وهي نهاية مناسبة لآية أخرى ورد فيها إشارة إلى مريم، عليها السلام، في قوله تعالى: ( وإذ قال [ ص: 120 ] الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) (المائدة:116-118).
إن المتأمل للصور الواردة في قصة مريم، يجد أنها جمعت بين الصور الحسية والصور العقلية، توزعت على مشاهد مختلفة، بينت عمق المشاعر، مع الإقرار بحقيقة التوحيد.
وتقدم قصة طالوت وجنوده مجموعة من المشاهد الحية، المستندة إلى أحداث واقعية، وشخصيات حقيقية، متوسلة في ذلك بلغة تصويرية، مفعمة بالحركية والحياة، تكشف طبيعة صنفين من البشر، صنف كثير التذمر والاعتراض على أوامر الشارع، يتصف بضعف الإيمان والنفاق العقائدي، يختبرهم الله تعالى مرة بعد أخرى، كي لا يبقى لهم حجة، وصنف يعبر عن القلة المؤمنة، المواجهة للتقاعس بالصبر والطاعة والجهاد. يفتتح الله تعالى هذه القصة بمخاطبة المتلقي، ليقص عليه أنباء مجموعة من أشراف بني إسرائيل ووجهائهم، يطلبون من نبي لهم بعد موسى، عليه السلام، تعيين ملك يقاتلون تحت لوائه، ولما حقق لهم ذلك تقاعسوا وتولوا مدبرين: ( ألم تر [ ص: 121 ] إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ) (البقرة:246).
مشهـد يعتمد على السرد والحوار لتقديم مجموعة من الصور التعبيرية، التي تكشـف حقيقـة ادعـاء القـوم استعدادهم للقتال في سبيل الله، لكن حـين يضعهم نبيهـم أمام الأمر الواقع يظهر نفاقهم وتقاعسهم، وتأتي لفظة ( تولوا ) وتذييل ( والله عليم بالظالمين ) لتعميق صورة الإعراض والإدبار من فضاء المعركة، وما يتبعها من ظلم للنفس وللأمة، ولتثير في أعماق المتلقي حالات من النفور والاشمئزاز.
وتتوالى مشاهد الكبر والظلم والإعراض في قوله تعالى: ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم * وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) (247-248). [ ص: 122 ]
من خلال هذا الحوار أخبرهم نبيهم أنه تقرر تعيين طالوت ملكا عليهم، لكنهم تابعوا اعتراضهم، لما جبلت عليه أنفسهم من التولي عن الحق، واعتبروا أنه لا يستحق الملك مادام لا يملك الانتماء الاجتماعي للطبقة الغنية، ويرون أنهم أحق بالملك منه، ولا يخفى ما في هذه الصور الحوارية من كبر واستعلاء على الناس واحتقار لمن دونهم. وفي هذا جدال عقيم، واشتغال عن المعركة الحقيقية، بصراعات مصلحية، تضر بالصالح العام. لكن الله رد على اعتراضهم المبني على موازينهم الأرضية البشرية، وأكد أن تعيين طالوت تم وفق ميزان رباني دقيق لا يحابي أحدا، ويعتمد على القوة والعلم.
ومن أبلغ الصور تأثيرا على النفس صورة القرية الفارغة وما تثيره في النفس الإنسانية من مشاعر التعجب، ثم الصورة العجائبية للمتسائل خلال نومه مائة عام، ومشاهدته لقضية البعث في قوله تعالى: ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير * وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ) (البقرة:259).
فالله تعالى يعرض صورا حسية مليئة بالحركة والتدرج، تستثير المشاعر، مكررا لفظة "انظر"، ولعل القصد منها النظر العقلي، أو البصيرة، وليس النظر [ ص: 123 ] البصري، لإقناع المتلقي، حيث كان البعث دليلا واضحا على القيمة العقدية، التي بنيت القصة في كليتها لإقرارها في النفوس.
ومن أروع الصور القصصية، التي تحرك النفس وتسمو بها نحو آفاق القيم، ومعارج العبادة الحقة، قوله تعالى: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) (الفتح:29)، صـورة تقـابل بين الشـدة والرحمة، بين الـكفر والإيمان، لتقدم صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفات المصاحبين له، التي نجدها في كل الكتب السماوية، يشبههم بالزرع الناضج المستوية حباته بهاء ونماء.
إن القصة القرآنية استطاعت تصوير النفس الإنسانية في مختلف حالاتها ونزعاتـها الثابتة والمتغيرة والطارئة، وتشخيص أبعادها المتنوعة والمتشعبة والمعقدة، كما استطاعت تشخيص مظاهر الطبيعة والكون فكانت بمثابة المعبر، الذي يوصل المتلقي إلى أبعاد جمالية ودلالية، تفضي به نحو الهداية وتصحيح العقيدة. [ ص: 124 ]