المقـدمة المنهجية
الحمد لله صاحب الخلق والأمر والقائل عز وجل: فاسأل به خبيرا (الفرقان:59) ، والقائل ولا ينبئك مثل خبير (فاطر:14) ، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة لجميع الكائنات محمد بن عبد الله الصادق الأمين، الرسول الذي أقام أعظم دولة في تأريخ الدنيا وأوجد خير أمة أخرجت للناس، مستفيدا من خبرات الأمم والحضارات قبله دون أن يقع في عللها وآفاتها.
أما بعد:
فإن البشرية تمر في عصـرنا بظروف يغلـب عليها الصراع بكافة صوره، بما فيها الصراع العسكري الدموي، وتتسيد فيها ثقافة الصدام والعراك، إذ كلما مرت الأيام ارتفعت الأصوات الداعية للصدام الحضاري وبالذات بين أكبر حضارتين في الأرض، وهما الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية الغربية، حيث دأب المتطرفون هنا وهناك على قرع أجراس الخطر ودق طبول الحرب، وعلى ادعاء النقاء العرقي والتفوق الحضاري، وواظبوا على نشر مزاعم امتلاك الحق الكامل والحقيقة المطلقة في عالمي الغيب والشهادة، ودأبوا على تسفيه الآخرين وادعاء أنهم ليسوا على شيء من الحق والصواب لا في شؤون الدنيا ولا في شؤون الآخرة.
ولا تزال عوامل وظروف عديدة تدفع بالأوضاع نحو المواجهة الحضارية الشاملة، وخاصة بعد ظهور نظرية (صراع الثقافات) التي رفع لواءها عدد من مفكري الغرب ومنهم المفكر الأمريكي الشهير "صموئيل هنتجتون" في كتابه [ ص: 5 ] الشهير (صدام الحضارات).
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، التي سقط فيها برجا مركز التجارة الدولي في نيويورك؛ سقطت مع البرجين بعض معاقل الحكمة وحصون التعايش الإنساني والتفاعل الحضاري، بين المسيحيين والمسلمين، لأن الحادثة قيدت ضد المسلمين وليس ضد مسلمين، بل وضد الإسلام عند غلاة التطرف الغربي، حيث أعلنت الحرب الشاملة ضد الإرهاب، الذي كاد في ممارسات كثيرين أن يصبح مرادفا للإسلام، وفقدت هذه الحرب بوصلة العقل، وكادت أن تفقد القدرة على التمييز بين الإرهاب والإسلام، إذ تشابهت البقر على رعاة البقر، وهم المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بفعل عوامل عديدة، بعضها ذاتية وبعضها موضوعية، وبفعل التحريض الخبيث، الذي تقوم به جهات ومنظمات صهيونية عديدة للإيقاع بين شعوب البشر عامة وللتحريش بين المسلمين والمسيحيين خاصة.
وفي هذا الجو المسموم ارتفعت صيحات كثيفة في العالم الإسلامي تدعو إلى ولوج حصون الانغلاق على الذات، بحجة حماية المسلمين من سهام العولمة والغزو الثقافي، وتحت مبرر المحافظة عليهم من حملات الاجتياح الحضاري.. ولتهيئة المسلمين لقبول هذا الموقف الدفاعي الانفعالي؛ استخدم أصحابه النصوص والمفردات الداعية للتميز والاستقلال والمحذرة من التبعية وموالاة أعداء المسلمين في سياق الدعوة للقطيعة الحضارية مع الغرب، حيث أنزلوا النصوص في غير مواضعها، إما بقصد أو بدون قصد.
ومن هنا رأى الباحث ضرورة دراسته لموضوع "الاستفادة من الآخر في الإسلام" لصياغة رؤية تأصيلية تساهم في تجفيف منابع العداء الأعمى، [ ص: 6 ] وفتح صنابير التفـاعل الحضـاري الخلاق، الذي يقوم على استفادة كل طرف ما ينقصه من الآخر، وهذا ما سنحاول القيام به في هذه الدراسة .
وستتم معالجة الموضوع في ضوء الخطوات الآتية:
أولا: مشكلة البحث:
تكمـن مـشـكلة هـذا البـحـث في الانغـلاق الحـضاري على الذات، أو الذوبان الكامل في حضارة الآخر، أو الانتقاء العشوائي الذي لا يراعي الضوابط المنهجية في الاقتباس، وإنما يتم وفق انفعالات عاطفية، لا حضور للعقل المفكر فيها، وذلك ناتج عن سوء قراءة لخارطة الثوابت والمتغيرات في الإسلام، مما أدى إلى الخلط الشديد بين الغزو الثقافي وبين التفاعل الحضاري، وبسبب ذلك ضعفت جهود أسلمة المعرفة، التي نشطت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، مما يستدعي العمل بقوة من أجل فك الاشتباك بين العقل والنقل، وتحديد العلاقة بين الثابت والمتغير، وإجلاء الفروق بين الأيديولوجيا والتكنولوجيا.
وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال العودة إلى الأصـول الإسـلامية في التعامل مع هذه المشكلة الشائكة، واستحضار موقف الفكر الإسلامي بتياراته الوسطية المعتدلة من هذا المشكل، ابتداء بعصر الصحابة وهو العصر الذهبي للتطبيق الإسلامي، ومرورا بالعصور الوسيطة، التي اختلط فيها الحق بالباطل والصواب بالخطأ، وانتهاء بالعصر الحديث، الذي اختلف فيه المفكرون المسلمون إلى حد التباين، وسنختار نماذج من مفكري المسلمين بدون استقصاء، مراعاة لطبيعة العصر ووقت القارئ.
[ ص: 7 ] ثانيا: هدف البحث:
يهدف هذا البحث إلى إبراز رؤية إسلامية عصرية حول مشروعية الاستفادة من (الآخر) وأسلمة المعرفة، بحيث تتسم هذه الرؤية بالعمق والوضوح والتكامل، وذلك من خلال التأصيل الذي يتكئ على الوحي المقدس وعلى الفلسفة العقلية القائمة على تقدير المصالح والمفاسد في الواقع العملي، أي من خلال العودة إلى مصدري النقل (الكتاب الكريم والسنة الصحيحة) ونتاج العقل المتفاعل مع هذه النصوص والوقائع الحياتية ذات الصلة بهذا الموضوع المهم؛ حتى يتم استئناف الإقلاع الحضاري بعد آماد من التخلف.
ثالثا: أهمية البحث وعوامل دراسته:
تحظى دراسة هذا الموضوع بأهمية بالغة، حيث تعالج قضية واقعية لها امتدادات فكرية واسعة وتأثيرات غير متناهية في الحياة، وتزداد أهمية هذا الموضوع لأنه ما يزال بكرا، إذ لم يسبق للباحث أن صادف أية دراسة عنه، باستثناء شذرات وإشارات بسيطة ضمن موقف الإسلام من (الآخر) على وجه العموم.
ونلخص عوامل اختيار هذا الموضوع في النقاط الآتية:
1- ارتباطه بقضية الصدام الحضاري، الذي يتحمس له كثيرون في جانب المسلمين وكذا في جانب الغربيين، وينذر هذا الحماس بأخطار وبيلة إن لم يتدارك عقلاء الطرفين الأمر.
2- مساهمته في تجفيف منابع الخلط بين الثوابت والمتغيرات في الفكر والفعل الإسلاميين، من خلال تمييزه بين التفاعل الحضاري المفروض والغزو الثقافي المرفوض، مع تعزيز هذه الرؤية بتأصيل شرعي واضح، حتى تصبح لهذه [ ص: 8 ] الرؤية قيمتها العملية في عقول امتلأت بمفردات التفسير التآمري لكل الظواهر والحوادث، كرد فعل متطرف على تيارات متطرفة في الغرب استهدفت المسلمين بالغزوين الثقافي والعسكري.
3- مساهمته في تعزيز الرؤية الوسطية المنفتحة على (الآخر) ، مهما كان هذا الآخر: دينيا، أو طائفيا، أو مذهبيا، أو حزبيا، أو عرقيا، وهي رؤية (أسلمة المعرفة) التي تميل إلى وضع العلم البشري في غربال التمحيص وفقا لمقياس المقاصد العظيمة لهذا الدين وحاجات الواقع؛ لأنه إذا كان الإسلام يدعو إلى الانفتاح على الآخر الديني والاقتباس منه كل ما يفيد في تحقيق هداية العمارة والاستخلاف، فمن باب أولى الاقتباس من الآخر الإسلامي والتعاون معه، سواء كان طائفيا أو مذهبيا أو كلاميا أو فلسفيا أو حزبيا، وسواء أكان تاريخيا أم معاصرا، بمعنى أن صاحب هذا البحث يفترض أن بحثه يمكنه المساهمة في نقل علاقة المسلمين ببعضهم من دائرة التآكل إلى دائرة التكامل، ومن معتركات التباين إلى ساحات التعاون.
رابعا: فرضية البحث:
يفترض الباحث أن عالمية الإسلام وخلوده إلى قيام الساعة تقتضي من المسلمين الانفتاح على الآخرين، بكل تغايراتهم الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو السياسية، مع بذل الجهود الحثيثة لمعرفتهم كما هم لا كما نتخيلهم أو نأمل منهم؛ من أجل اقتباس كل ما هو نافع ومفيد منهم، وتكييفه داخل منظوماتنا الثقافية والحضارية وتطويعه وفق خصوصياتنا الاجتماعية والبيئية وخلفياتنا التاريخية، بحيث يزيد من فاعلية الأمة في طريق استعادة دورها في الشهود الحضاري على الأمم والقيومية على الناس.
[ ص: 9 ] خامسا: منهج البحث:
سيستخدم الباحث المنهج التحليلي بأدواته المتنوعة والغنية، من وصف للمشكلة ومظاهرها، إلى تجزئ لعناصر القضية محل الدراسة، وإعادة صياغتها بما يساعد في تحقيق الهدف المرجو من هذه الدراسة، وقد نستخدم المقارنة في بعض نواحي الدراسة .
وسيعمد الباحث إلى قراءة المفردات التي تنتمي إلى عالم البحث بوعي وتجرد ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وسيعمل على تفكيكها إلى عناصرها الأولية، ثم إعادة تركيبها ووضعها في أماكنها المناسبة ضمن منظومة هذا البحث وهيكله المحدد، مع تغليب القراءة الكلية والانطلاق من الرؤية الشرعية المقاصدية، التي تستهدف تحقيق مصالح الناس في المعاش والمعاد، ودون الوقوع في أسر الرؤى الدفاعية القاصرة التي تميل للتوجس والتحسس من كل شيء ذي صلة بالآخر ولا سيما الغرب، أو السقوط في عقدة النقص والانجراف مع رؤى الغالب، بقضها وقضيضها.
سادسا: هيكل البحث:
بجانب هذه المقدمة المنهجية، سيتكون هذا البحث من ثلاثة مباحث وخاتمة، على النحو الآتي:
- المبـحـث الأول: تشـريـع (النـقـل) لأهمية الاستفادة من (الآخـر).
- المبـحـث الثاني: تأكيـد العقـل على ضـرورة الاستفادة من الآخر.
- المبحث الثالث: أسس الاستفادة من الآخر وضوابطها
- الخاتمة.
[ ص: 10 ]