المبحث الثاني
اختيار أهل الكفاءة والأمانة
لتولي الوظائف
يعتبر الاختيار الصحيح للموظفين، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، مسألة مهمة وجوهرية في سياسة الإسلام الوقائية لمكافحة الفساد المالي والإداري، والمبدأ هنا هو مبدأ تولية الأصلح؛ بحيث يتم اختيار الأصلح والأمثل لشغل الوظائف العامة على مختلف مستوياتها، وفي تقرير هذه الحقيقة يقول ابن تيمية (ت 728هـ):
"يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله" رواه الحاكم في صحيحه [1] ...
[ ص: 83 ] وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة، أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين
... فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين... أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه... فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما... أو صداقة، أو موافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس،... أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب... فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (الأنفال:27).
... وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: إن خير من استأجرت القوي الأمين (القصص:26).. وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام: إنك اليوم لدينا مكين أمين (يوسف:54)" [2] .
وإذن، فتولية الأصلح يراد بها تولية أهل الكفاءة والأمانة، والكفاءة هنا تعني القوة والمقدرة على تحمل أعباء العمل، وأداء الواجبات والمهام الوظيفية بالشكل المطلوب وعلى أكمل الوجوه. وأما الأمانة فمردها إلى الوازع الديني [ ص: 84 ] والضمير الأخلاقي، وهي تعني النزاهة بحيث "يكون الشخص الذي يتولى أعباء الوظيفة العامة أمينا على الأموال، وأمينا على المصالح الحالية والمستقبلية... كما أن الأمانة تقود إلى الإتقان والتجويد في أداء العمل" [3] .
وهنالك صفات أخرى مهمة تعزز كفاءة الموظف يجب أن يتحلى بها الموظفون عموما، وأصحاب المناصب الكبيرة على وجه الخصوص، وأهمها:
1- الرفق:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" [4] .. والرفق يقتضي حسن المعاملة، وتيسير أمور الناس، وإنجاز معاملاتهم دون تسويف أو مماطلة، وتسهيل وصولهم إلى المسؤولين. قال صلى الله عليه وسلم: "ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، إلا أغلق الله عز وجل أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته" [5] .
[ ص: 85 ] ومن وصايا عمر، رضي الله عنه، لولاة الأمصار: "لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه" [6] .
2- الاجتهاد والإخلاص في العمل:
قال صـلى الله عليه وسـلم: "ما من أميـر يـلي أمر المسـلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة" [7] .
وهذه الصفات هي شروط عامة، وقد تضاف إليها شروط أخرى تقتضيها طبيعة العمل، وفي سـيرة الخلفاء الراشـدين نجد ما يمكن تسـميته بـ "الإعلان عن شروط التوظيف"، ومن ذلك قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "أريد رجلا إذا كان في القوم وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أمير بدا وكأنه واحد منهم.. أريد واليا لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا مطعم، ولا مسكن.. يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق الباب دون حوائجهم" [8] .
[ ص: 86 ] والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين يرى الحزم في تطبيق معايير الكفاءة والأمانة عند اختيار الأشخاص لشغل أعمال أو وظائف معينة في الدولة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سن مبدأ فريدا فقال: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله" [9] .
فالوظائف على اختلاف درجاتها لا تعطى لمن طلبها، ولا مجال فيها للمحاباة والمحسوبية والوساطة، ولكنها تنال استحقاقا عند استيفاء المعايير والشروط المطلوبة، ويتقلدها الفرد تكليفا لا تشريفا.
فعن أبي موسى الأشـعري، رضي الله عنه، قال: أقبلت إلى النبي، صـلى الله عليـه وسـلم، ومعـي رجـلان من الأشـعريـين، أحـدهما عن يميـني والآخر عن يسـاري، ورسـول الله - صلى الله عليه وسلم - يسـتاك، فكلاهما سـأل [أي سأل التولية]، فقال : "يا أبا موسى"، أو "يا عبد الله بن قيس"!!... قلت : والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل... فقال "لن - أو لا - نستعمل على عملنا من أراده" [10] .
[ ص: 87 ] وقال صـلى الله عليه وسـلم لعبد الرحمن بن سمرة:
"يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها" [11] .
وعندما جاء أبو ذر، رضي الله عنه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، ألا تستعملني؟
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" [12] .
وعندما ولى أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، يزيد بن أبي سفيان على الشام قال له: "يا يزيد، إن لك قرابة، عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، ذلك [ ص: 88 ] أكثر ما أخاف عليك، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال:
"من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم" [13] .
وهذا التشديد في أمر التولية أو التعيين في الوظائف والمناصب لا سيما المهمة منها له ما يبرره؛ إذ لا يمكن أن ننشد صلاح المؤسسات، واستقامة أحوالها، والقائمون عليها فاسدون، أو ضعفاء عاجزون.
ولا شك أن جذر البلاء، وأساس الفساد أن يعهد بالوظائف والمناصب إلى من لا كفاءة لديهم، ولا أمانة عندهم، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" [14] .
ومن هذا المنطلق يعد التشديد والتدقيق في مسألة التعيين للوظائف والمناصب في أجهزة الدولة المختلفة أمرا في غاية الأهمية، وإجراء وقائيا متقدما في مكافحة الفساد المالي والإداري.
[ ص: 89 ] [ ص: 90 ]