المبحث الثالث
تحديد قواعد السلوك الوظيفي
في سياق الإجراءات الوقائية لمكافحة الفساد المالي والإداري فإنه من الأهمية بمكان أن يكون الموظف مدركا لأهمية العمل الذي تولاه، والحقوق التي له، والواجبات التي عليه، والمحظورات التي يجب عليه الابتعاد عنها، والجزاءات التي سيتعرض لها في حال المخالفة، وهو ما تتضمنه "مدونات السلوك الوظيفي" في الحكومات المعاصرة كأحد الإجراءات الوقائية التي نصت عليها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد
[1] .
وتكمن أهمية "مدونات السلوك الوظيفي" في كونها تتضمن القيم والمبادئ والمعايير الضابطة لسلوك الموظف، ولذلك هي تنشر وتعمم على [ ص: 91 ] جميع الموظفين؛ لكي تكون الرؤية واضحة، والحجة قائمة على الجميع؛ ولكي تكون العقوبات والإجراءات الجزائية وفقا للوائح وبما يضمن استبعاد أثر العامل النفسي والهوى الشخصي.
ومن المعلوم أن هنالك وظائف لها اشتراطات خاصة تفرضها طبيعة الوظيفة، كذلك هنالك مؤسسات في القطاعين العام والخاص قد تشترط على العاملين لديها شـروطا لا تشترطها بقية المؤسـسات، وتلك الاشتراطات يجب أن تكون واضحة ومعلومة للجميع، ومحررة ضمن "مدونة السلوك الوظيفي".
- مطلوبات "السلوك الوظيفي":
والقرآن الكريم يلفت أنظارنا إلى أهمية ذلك كله، كما في قوله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (ص:26).
فهذه الآية الكريمة تضمنت - على إيجازها- أهم العناصر المطلوبة في "السلوك الوظيفي"، فهي قد تضمنت:
- التعريف بطبيعة العمل وأهميته: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض .
- التعريف بالواجب: فاحكم بين الناس بالحق .
[ ص: 92 ] - التعريف بالمحظور: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله .
- بيان الجزاء في حال المخالفة: إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب .
وهذه العناصـر الأربعة، التي تضـمنتها الآية الكريمـة هي خلاصـة ما ينبغي أن تتضمنه "مدونة السلوك الوظيفي"؛ لكي تكون الرؤية واضحة عند كل من تولى عملا من أعمال الوظيفة العامة.
- قواعد "السلوك الوظيفي":
وإذا رجعنا إلى السيرة النبوية سنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يكلف الصحابة بتولي بعض الأعمال، كان يحدد معايير السلوك المطلوبة إزاء كل عمل، ومن ذلك قوله لمعاذ بن جبل، رضي الله عنه، حين بعثه إلى اليمن:
"إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" [2] .
[ ص: 93 ] ففي هذا الحديث نجد قواعد السلوك الوظيفي تتحدد من خلال المعايير التالية:
- التعريف ببيئة العمل: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب".
- تحديد المهام الواجب تنفيذها: "فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم".
- تحديد المحظورات: "فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب".
إن تحديد قواعد السلوك الوظيفي يجعل الموظف يسير وفق تصور ورؤية واضحة، وهو ما يجنبه الأخطاء التي قد يقع فيها بحسن نية، أو نتيجة للاجتهاد القاصر، ويمكن ملاحظة هذا المعنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، رضي الله عنه: "فإياك وكرائم أموالهم".
فالنهي هنا لمعاذ عن كرائم الأموال؛ أي عن أخذ خيار المال وأفضله في الزكاة - لأن الحق في الزكاة يتعلق بالوسط من المال - هو نهي عن أمر يمكن أن يحصل من معاذ، رضي الله عنه، بحسن نية؛ لعدد من الاعتبارات التي قد يـراها، كأن يرى أن الزكاة عبـادة، والعبادة يجب فيها الأفضـل، [ ص: 94 ] أو يرى تغليب مصلحة الفقير، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سد الباب أمام هذا الاجتهاد بتوضيحه لقواعد السلوك التي يجب على معاذ، رضي الله عنه، أن يسير عليها في ولايته.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يضع اشـتراطات معينة، ومعايير واضحة ومحددة للسـلوك الوظيفي المطلوب من الـولاة، وكان فوق ذلك يجـعل شـهودا على تلك الاشـتراطات كنوع من التوثيق لها، والإشـعار بأهميتها، وليكون ذلك أبلغ في إقامـة الحجة حال حصول المخالفة، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصـنفه عن ابن خزيمة بن ثابت قال:
"كان عمر إذا استعمل رجلا أشهد عليه رهطا من الأنصار وغيرهم، قال: يقول: إني لم أسـتعملك على دمـاء المسـلمين، ولا على أعراضهم، ولكني استعملتك عليهم لتقسم بينهم بالعدل، وتقيم فيهم الصلاة.. واشترط عليه أن لا يأكل نقيا [3] ، ولا يلبس رقيقا، ولا يركب برذونا، ولا يغلق بابه دون حوائج الناس" [4] .
[ ص: 95 ] وتعتبر رسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، إلى واليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر، مدونة رائعة في السلوك الوظيفي، وهي رسالة طويلة تضمنت معايير دقيقة، وقواعد سليمة للولاية العامة، ونظرا لطولها سنكتفي منها بالفقرات التالية [5] :
- هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين إلى مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصـر: جبايـة خراجها، وجـهاد عدوها، واسـتصلاح أهلها، وعمارة بلادهـا، أمره بتقوى الله وإيثار طاعتـه واتبـاع ما أمره به في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا بالعدول عنها.
- وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم؛ والطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ؛ فأعطهم من صفحك وعفوك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولاك؛ وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، فلا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه [ ص: 96 ] لا قوة لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته.
- وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة.
- ولا تدخلن في مشـورتك بخيلا فيعدل عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا فيضـعفك عن الأمور، ولا حريصا فيزين لك الشـره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
- وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
- ولا يدعونك شـرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.
- ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة.
- وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إسرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا.
- ثم أسـبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على اسـتصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا [ ص: 97 ] أمرك أو ثلموا أمانتك.
- ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيـون من أهل الصـدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.
- وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام الذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.
- وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا.
- وإياك والدماء وسـفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسـافكوا من الدماء يوم القيامة؛ فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله.
- وإياك والإعجـاب بنفسـك والثقة بما يعجـبك منها وحـب الإطراء، فإن ذلك من أوثـق فرص الشـيطان في نفسـه ليمحـق ما يكون [ ص: 98 ] من إحسان المحسنين.
- وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، والتزيد فيما كان من فعلك، وأن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس.
وإذن يمكن القول:
إن التجربة الحضارية الإسـلامية قد عرفت "مدونات السـلوك الوظيفي"، وأن تلك المدونات كانت تحدد بوضوح ودقة "معايير السـلوك الوظيفي" المطلوب، وإن المبدأ العام الذي تقرره التعاليم والتجربة الإسلامية هنا هو أن يعرف كل من تولى عملا من أعمال الوظيفة العامة، أهمية العمل الذي كلف به، والواجبات التي يجب عليه القيام بها، والمحظورات التي يحب عليه اجتنابها.
[ ص: 99 ]