المبحث الرابع
رفع الأجور والمرتبات إلى حد الكفاية
وتأمين المعيشة الكريمة للموظفين
سبق معنا الحديث عن السمات العامة للسياسة الوقائية في الإسلام، وأن من تلك السمات: الواقعية، وتتجلى هذه السمة في سياسة الإسلام الوقائية في مكافحة الفساد المالي والإداري كأوضح ما يكون في إيجاب الإسلام توفير حد الكفاية للعاملين في وظائف الدولة وبما يضمن المعيشة الكريمة لهم.
وبداية لابد من إدراك الفرق بين: "حد الكفاية" و"حد الكفاف".. فحد الكفاية يراد به توفير احتياجات ومتطلبات الفرد الضرورية والتحسينية، بحيث يحيا الإنسان حياة كريمة، وفي سعة من العيش.
ويشـمل "حد الكفايـة": المطعم، والملبس، والمسكن اللائق، والتعليم، والزواج، والصحة، والزينة، ووسائل الانتقال، والأدوات اللازمة للعمل والإنتاج.
وأما "حد الكفاف" فيراد به توفير الاحتياجات الضرورية التي تمكن الإنسان من العيش، فالمصطلح يشير إلى الاقتصار على الحد الأدنى اللازم [ ص: 100 ] للمعيشة، وبالتالي فالإنسان الذي يعيش على "حد الكفاف" لا يتمتع بمعيشة يمكن أن توصف بأنها كريمة أو لائقة.
جاء في الموسوعة الفقهية عن الفرق بين "حد الكفاية" و"حد الكفاف" ما يلي:
"الكفاية: لغة من كفى يكفي كفاية. ومن معانيها ما يحصل به الاستغناء عن غيره، ويقال: اكتفيت بالشيء: أي استغنيت به...
- الكفاف لغة من كف بمعنى: ترك. يقال: كف عن الشيء كفا: تركه. ويقال: كففته كفا: منعته، ويقال: قوته كفاف: أي مقدار حاجته من غير زيادة ولا نقص... ويقال: اسـتكف وتـكفف: إذا أخذ ببطن كفه، أو سأل كفا من طعام، أو ما يكف به الجوع... وعرفه الشريف الجرجاني بأنه: ما كان بقدر الحاجة ولا يفضل منه شيء، ويكف عن السؤال.
ويختلف حد الكفاف في الإنسان عن "حد الكفاية" من أن حد الكفاف يقتصر على سد الضروريات القصوى من مطعم ومسكن وملبس، أما "حد الكفاية" فيتعدى ذلك إلى ما لابد للإنسان منه على ما يليق بحاله، من نكاح وتعليم وعلاج وقضـاء دين، وما يتـزين به من ملابس وحلي وغير ذلك" [1] .
[ ص: 101 ] والإسلام يوجب على الدولة توفير "حد الكفاية" للموظفين؛ أي حد المعيشة الكريمة اللائقة. وهذا ما يقرره فقهاء الإسلام بوضوح كالإمام الماوردي (ت450هـ) الذي جعل المعيار في تحديد العطاء (الراتب) حصول الكفاية، فقال: "وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية... والكفاية معتبرة من ثلاثة وجوه:
أحدها: عدد من يعوله من الذراري والمماليك.
والثاني: عدد ما يرتبط به من الخيل والظهر.
والثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص.
فيقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زيد، وإن نقصت نقص" [2] .
والإمام الماوردي يتحدث هنا عن رواتب الجند تحديدا، وقد أقام اعتبار الكفاية على معطيات كانت موجودة في عصره، ولا شك أن المعطيات تختلف من عصـر إلى آخر، لكن يبقى المبدأ وهو أن يكون الراتب محققا لحد الكفاية.
[ ص: 102 ] كذلك نجد الإمام بدر الدين بن جـمـاعة (ت733هـ) ينص صراحة على أن الرواتب يجب أن تكون محققة لحد الكفاية، حيث يقول:
"ويـفرض السـلطان لكل واحـد من الأمـراء والأجنـاد من العطـاء أو الإقطاع قدر ما يحتاج إليه في كفايته اللائقة بحاله أو مروءته، ومنزلته في الزوجات والأولاد، والعبيد، والإماء، والخدم، والدواب، من مؤنة وكسوة ومسكن، وخيل، وسلاح، وحاجة سفر.
ويراعى في ذلك الزمان والمكان، والرخص والغلاء، وعادة البلد في المطاعم والملابس" [3] .
بل إن الفقهاء ناقشوا مسـألة الزيادة على حد الكفاية إذا وجد فائض من المال في خزائن الدولة، فذهب الشافعي إلى المنع من الزيادة على "حد الكفاية"، وإن اتسع المال، وجوز أبو حنيفة الزيادة على "حد الكفاية" إذا اتسع المال لها [4] .
وأول من سن حد الكفاية للعاملين في الوظائف العامة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: "من ولي لنا عملا وليس له منزل [ ص: 103 ] فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال" [5] .
"ومفهوم الحديث أن من واجب الموظف أن يؤمن لنفسه هذه المطالب الضـرورية، فإذا أعجـزه الفقر عن ذلك كان على الدولة أن توفرها له، حفاظا على الكرامة التي هي حق لكل مسـلم، بل لكل إنسـان، وتحقيقا للأمن النفسي الذي لا سبيل للاطمئنان بدونه.. واعتبار الدابة إحدى الضروريات الأساسية لهذا الإنسان، عاملا أو موظفا يشمل السـيارة والدراجة، وما إليهما من وسائل الانتقال الضرورية، سواء منها ما كان خاصا، أو داخلا في نطاق النقل الجماعي" [6] .
وكما مر معنا في كلام الإمام الماوردي (ت450هـ) والإمام ابن جماعة (ت733هـ) أنه يجب مراعاة اختلاف الظروف والأحوال في تقدير الرواتب، وهذه المراعاة كانت قائمة لدى الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، فقد زاد [ ص: 104 ] عمر بن الخطاب، رضي لله عنه: "في مرتب معاوية بالشام؛ إذ كانت مكانة معاوية بالشام تستدعي مظهرا عاليا، وتكاليف مرتفعة" [7] .
وقد عرف عن عمر، رضي الله عنه، شدته على عماله، وتدقيقه في محاسبتهم، والوجه الآخر الذي يجب أن يعرف عنه هو أنه كان يوسع على من يستعملهم في وظائف الدولة في الأرزاق، ويعطيهم رواتب مجزية وكافية، "وكان يقول: اغنوهم عن الخيانة... ويقول: هذا قليل لمن عمل بالحق" [8] .
"وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حددت الرواتب وكانت سـنوية وشـهرية، بل إن البعض كان يعطى راتبا يوميا، إضـافة إلى عطاء للزوجة، وعطاء للأولاد، وبعض المواد التموينية... كما اهتم الخليفة عمر، رضي الله عنه، اهتماما خاصا برواتب القضاة، فأعطاهم بسخاء ليظهروا بالمظهر اللائق، ولئلا يطمعوا في رشوة أو هدية، وكتب، رضي الله عنه، إلى معـاذ وأبي عبيـدة بالشـام فقال: انظروا رجالا من الصـالحين من قبلكم فاسـتعملوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم، وارزقوهم من مال الله" [9] .
[ ص: 105 ] وهكذا أرسى الإسلام عمليا مبدأ الكفاية للعاملين في وظائف الدولة المختلفة، وبذلك أرسى "ركيزة هامة من ركائز الإدارة في الإسلام التي تمنع الفساد، وتدفع الإنسان إلى الإبداع والعطاء، بل لقد أرسى الإسلام بهذا المبدأ مبدأ آخر وهو ما يسـمى بـ "مبدأ النفعية"؛ أي منفعة العامل أولا بما يلبي حاجاته ويؤمن حياته المعيشـية، ويخلق لديه الاسـتقرار النفسي بما يجعله قادرا على العطاء، بل الإبداع والتضحية في سبيل المجتمع" [10] .
وهنالك العديد من الدراسات التي تشير إلى وجود علاقة بين الفساد المالي والإداري وبين الرواتب الضعيفة والمتدنية، وأنه كلما كانت المرتبات والأجور التي يتقاضاها العاملون متدنية ولا تفي بسد الحاجات الأساسية من السلع والخدمات والتعليم والسكن كان الفساد أكبر [11] .
وما تشير إليه هذه الدراسات كان واضحا ومدركا في الرؤية الإدارية الإسلامية، فقد جاء في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (ت 182هـ):
"أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنست أصحاب رسول الله!
فقال عمر: يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟
[ ص: 106 ] فقال أبو عبيـدة: أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيـانة" [12] ، أي أغنهم بمرتبات كافية مقابل عملهم، حتى لا يقعوا في الخيانة.
والمبدأ هنا واضح، فلما "كان يجب على الموظف أن يتفرغ لأعمال وظيفته فإنه يجب أن يعطى هو ومن يعول ما يكفيه من الرزق، وذلك حتى لا تمتد يده إلى المال العام بالباطل؛ لأن من الأمور المهمة في الخدمة العامة في الإسلام كفاية الأجر مقابل العمل وحجمه ومسؤوليته وأهميته" [13] .
وهكذا نرى الخـبرة والتجـربة الإسـلامية في مجـال إدارة الـدولة تقول لنا وبوضـوح تام: إنه لا يمكن القضاء على الفساد المالي والإداري ورواتب الموظفين ضـعيفة ومتدنية ولا تكاد تفي بمتطلبات الحياة الأسـاسية، وأنه يجب على الدولة إعطاء مرتبات كافية، وتأمين المعيشـة الكريمة للعاملين في مختلف الوظائف.
ولا شك أن جعل الرواتب محققة للغرض الكفائي- "حد الكفاية"- هو حق للعاملين في الوظائف، على اختلاف درجاتهم، وهو أيضا إجراء [ ص: 107 ] وقائي حكيم؛ لأنه بهذا الإجراء يتم تحرير الموظف من الضغوط المعيشية، ومن ذل الحاجة، وفي ذلك أكبر عون له على النزاهة والاستقامة.
وفي تقرير هذه الحقيقة يقول الإمام علي، رضي الله عنه، في رسالته، التي وجهها لعامله على مصر الأشتر النخعي:
"ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة... ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك" [14] .
[ ص: 108 ]