المبحث الخامس
إلزام كبار الموظفين
أن يقدموا إقرارا بالذمة المالية
يعتبر إلزام كبار موظفي وشاغلي الوظائف العليا في الدولة بتقديم إقرارات بذممهم المالية قبل توليهم لمناصبهم من أهم الإجراءات المعاصرة في مكافحة الفساد المالي والإداري، وقد أخذت به أغلب دول العالم، وجعلته ملزما بحكم القانون، حيث يتوجب على كبار الموظفين وأصحاب المناصب العليا في الدولة أن يقدموا إقرارا بأموالهم الثابتة والمنقولة، وكذلك أموال زوجاتهم وأولادهم الثابتة والمنقولة، قبل أن يمكنوا من مناصبهم، وبعد أن تمر عليهم وهم في مناصبهم فترة يحددها القانون، وحين تركهم لمناصبهم، وكل ذلك في إطار قوانين مكافحة الكسب غير المشروع عن طريق استغلال الوظيفة العامة، والمتاجرة بها.
وهكذا لم يعد الإقرار بالذمة المالية مجرد مبدأ يلتزم به من شاء، ويعرض عنه من شاء، ولكنه اكتسب الصفة الإلزامية من خلال قوانين وتشريعات سنتها حكومات كثيرة في العالم، إدراكا منها لأهمية الإقرار بالذمة المالية في مكافحة الفساد المالي والإداري.
[ ص: 109 ] وقد كان للإدارة الإسـلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطـاب، رضي الله عنه، قصب السبق في تطبيق مبدأ الإقرار بالذمة المالية وإلزام كبار موظفي الدولة به، فقد كان من سياسة عمر، رضي الله عنه، أنه كان يلزم من يعينهم في الولايات العامة (الوظائف الإدارية العليا) بتقديم إقرار مكتوب بكل ممتلكاتهم، ثم كان - رضي الله عنه - يحاسبهم بناء على ذلك الإقرار، فكان يصادر كل مال لدى الولاة يزيد عن ذلك الإقرار، وإذا تعلل بعض الولاة بالتجارة وثبت لدى عمر، رضي الله عنه، أن تلك الزيادة ناشئة عن التجارة فإنه كان يعدل عن المصادرة إلى المقاسمة، أي مقاسمة الولاة أموالهم الزائدة عن الإقرار بأخذ نصفها، وكان عمر، رضي الله عنه، ينهى الولاة عن ممارسة التجارة، ويقول لهم:
"إنما بعثناكم ولاة، ولم نبعثكم تجارا" [1] !
روى الإمام أحمد عن نافع قال:
"كتب خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سـفيان، وعمرو بن العاص، إلى أبي بكر: أن زدنا في أرزاقنا وإلا فابعث إلى عملك من يكفيكه.
فاستشار أبو بكر في ذلك، فقال عمر: لا تزدهم درهما واحدا.
قال: فمن لعملهم؟
[ ص: 110 ] قال: أنا أكفيه ولا أريد أن ترزقني شيئا.
قال: فتجهز.
فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إن قرب عمر منك، ومشاورته أنفع للمسلمين من شيء يسير، فزد هؤلاء القوم، وهو الخليفة بعدك.
فعزم على عمر أن يقيم.
قال: وزادهم ما سألوا.
قال: فلما ولي عمر كتب إليهم إن رضيتم بالرزق الأول وإلا فاعتزلوا عملنا.
قال: وقد كان معاوية -يعني بن أبي سفيان- استعمل مكان يزيد.
قال: فأما معاوية وعمرو فرضيا.
وأما خالد فاعتزل.
قال: فكتب إليهما عمر أن اكتبا لي كل مال هو لكما.
ففعلا.
قال: فجعل لا يقدر لهما بعد على مال إلا أخذه، فجعله في بيت المال" [2] .
[ ص: 111 ] فقول عمر، رضي الله عنه: "اكتبا لي كل مال هو لكما" هو طلب إلزامي بتقديم إقرار بالذمة المالية.
ولم يكن هذا الإقرار حبرا على ورق، بل كان أساسا تبنى عليه المحاسبة والمصادرة لأي مال يزيد عن ذلك الإقرار خلال فترة الولاية، قال الراوي: "فجعل عمر، رضـي الله عنه، لا يقـدر لهما بعد على مال إلا أخذه، فجعله في بيت المال".
قال عبد الله بن المبارك (ت181هـ):
"كان عمر بن الخطاب يكتب أموال عماله إذا ولاهم، ثم يقاسـمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم" [3] .
وقد ظل هذا المبدأ حاضرا في بعض تطبيقات الإدارة الإسلامية بعد ذلك، ومن ذلك ما ورد في كتاب تاريخ قضاة الأندلس في ترجمة قاضي قضاة قرطبة محمد بن يبقى بن زرب (ت381هـ):
"قال ابن حيان: سمعت المشيخة يقولون: إنه لما ولي القضاء، احتبس خواص أصحابه المشاورين، وقد جاءوه مهنئين؛ فأمر غلامه: فكشف عن [ ص: 112 ] مال عظيم صامت في صندوق له، وقال: يا أصحابنا، قد عرفتم ما نحن به من تولي القضاء قديما من سوء الظنة؛ وأخشى أن أطلق الناس على عرضي وهذا حاصلي، وفيه من العين كذا، وفي مخازني ما بقي بقيمته، وحظي من التجارة ما علمتم، فإن فشا من مالي ما يناسب هذا، فلا لوم؛ وإن تباعد عن ذلك، فقد وجب مقتي" [4] .
وفي أيامنا هذه، أخذت كثير من الدول الإسلامية بمبدأ الإقرار بالذمة المالية لكبار الموظفين، وسنت قوانين وتشريعات لتطبيق هذا المبدأ، لكن غياب الشفافية، وعدم الجدية في التطبيق، حال دون ثمرته المرجوة في مكافحة الفساد المالي والإداري.
وهنا تمتاز الدول المتقدمة بتطبيق قانون الإقرار بالذمة المالية بكل شفافية ووضوح، حيث يتم الإقرار بالذمة المالية لكبار الموظفين المشمولين بالقانون ودون استثناء لأحد، ويكون الإقرار قبل تسلمهم لمناصبهم في الدولة.. ثم بعد مرور فترة على تولي المنصب، يحددها القانون، ثم عند ترك المنصب، وبين آونة وأخرى يتم الكشف عن حالات فساد استنادا إلى الإقرار بالذمـة المالية، وتجري محاكمات نزيهة يتابعها الرأي العـام، وكل [ ص: 113 ] ذلك لضـمان عـدم استغـلال أي مسـؤول لمنصـبه في تمريـر عقـود أو صـفقات مشبوهة، أو الحصول على الرشاوى، أو الاستيلاء على المال العام بطريقة ما من طرق الاحتيال.
والمسلمون أولى من غيرهم بتطبيق مبدأ الإقرار بالذمة المالية بكل شفافية ووضوح، لا سيما وقد كان لهم قصب السبق في إقرار هذا المبدأ وتبني تطبيقه قبل أن يعرفه العالم بقرون طويلة.
[ ص: 114 ]