الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الفساد المالي والإداري - رؤية إسلامية - في الوقاية والعلاج

          الأستاذ / أمين نعمان الصلاحي

          المبحث السابع

          منع الموظفين من قبول الهدية

          وجعلها في منزلة الرشوة

          منع الإسلام المتقلدين للوظائف العامة من قبول الهدية، وجعلها في منزلة الرشوة، ويعد هذا المنع أحد التدابير الوقائية المهمة في مكافحة الفساد المالي والإداري.

          وكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم حازما حين سمع من أحدهم أنه تلقى هدية أثناء تقلده لإحدى الوظائف العامة، ففي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي، رضي الله عنه، قال:

          "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسـد، يقال له: ابن الأتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي!

          فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر.. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

          "ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا" [1] !

          [ ص: 126 ] وعن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هدايا العمال غلول" [2] .

          والواقع يشهد أن تأثير الهدية في مجال الوظيفة العامة لا يقل عن تأثير الرشوة، وهذا ما يقرره العلامة ابن القيم (ت751هـ) بقوله:

          "إن قبول الهدية من الوالي والقاضي ونحوهما هو أصل فساد العالم، وسبب إسناد الأمر إلى غير أهله، وتولية الخونة والضعفاء والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يحصيه إلا الله" [3] .

          والموظف حين يقبل الهدية فهو يقبل الرشوة بمسمى آخر، والعبرة بالحقائق لا بالمسميات، يقول العلامة الشوكاني (ت1250هـ):

          "إن الهـدايـا التي تهدى للقـضـاة ونـحـوهم هي نـوع من الرشـوة؛ لأن الـمهدي إذا لم يكن معتادا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته، لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوي به على باطله، أو التوصل بهديته له إلى حق، والكل حرام كما تقدم، وأقل الأحوال أن يكون طالبا لقربه من الحاكم، وتعظيمه، ونفوذ كلامه، ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه، أو الأمن من مطالبتهم له... وهذه الأغراض كلها تؤول إلى ما آلت إليه الرشوة.

          [ ص: 127 ] فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء، فإن للإحسان تأثيرا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى الـمهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين الـمـهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب، بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا.

          ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخـولي في القضـاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه، بل من الأقارب فضلا عن سائر الناس، فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه، أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه" [4] .

          ولا فرق بين الإهداء إلى الموظف العام، أو لزوجاته، أو لأولاده، فكله محظور، والشبهة فيه قائمة، وقد أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة الخليفة عمر، رضي الله عنه، عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل طنفسة (بساط مخملي يوضع للجلوس عليه على الأرض أو على ظهر البعير) فدخل عليها عمر فرآها، فقال: أنى لك هذه؟ فقالت: نعم.. أهداها إلي أبو موسى الأشعري. فغضـب عمر، واسـتدعى أبا موسى ووبخه. ثم قال له: خذها [ ص: 128 ] فلا حاجة لنا فيها [5] .

          ومما يقرره فقهاء الإسلام أن الهدايا التي يأخذها الموظف العام هي من أكل أموال الناس بالباطل، ويجب على الدولة مصادرتها [6] .

          وقد صادر عمر، رضي الله عنه، هدايا ثمينة أهديت لزوجته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من زوجة ملك الروم، فقد "قدم بريد ملك الروم على عمر بن الخطاب، فاستقرضت امرأة عمر بن الخطاب دينارا، فاشـترت به عطرا وجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى امرأة ملك الروم، فلما أتاها فرغتـهن وملأتهن جواهر. وقالت: اذهب به إلى امرأة عمر بن الخطاب. فلما أتاها فرغتهن على البساط، فدخل عمر بن الخطاب فقال: ما هذا؟ فأخبرته الخبر. فأخذ عمر الجوهر فباعه، ودفع إلى امرأته دينارا، وجعل ما بقي من ذلك في بيت مال المسلمين" [7] .

          فعمر، رضي الله عنه، حين رأى أن الهدية التي تلقتها زوجته هي أضعاف هديتها، علم أنها لو لم تكن زوجة أمير المؤمنين ما جاءتها تلك الهدية الثمينة.. ولأنه حاكم عادل، وخليفة راشد، فقد دفع إلى زوجته الدينار الذي اسـتقرضته لشراء الهدية، وما زاد عن ذلك جعله في بيت مال المسلمين.

          [ ص: 129 ] إن تحريم قبول الهدية على الموظف العام يشمل كل الهدايا التي تقدم من الأدنى إلى الأعلى، كهدايا أصحاب المعاملات والمراجعين للموظفين، وهدايا الموظفين للمدراء، وهدايا الطلاب للمعلمين، وهكذا كل هدية تقدم من الأدنى إلى الأعلى هي محرمة ولا يجوز أخذها، وإن كانت نية الـمهدي حسنة، وليس له مقصد في تحصيل منفعة، أو تحقيق مصلحة من وراء هديته، فالواجب على الموظف عدم قبول الهدية، سدا للذريعة، وإغلاقا لهذا الباب الذي يدخل منه شر عظيم [8] .

          وإن قيل للموظف: إنها هدية، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قبل الهدية، فليكن جوابه جواب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله:

          "كانت الهدية في زمن رسـول الله صلى الله عليه وسـلم هدية واليوم رشـوة"

          [9] .

          [ ص: 130 ] [ ص: 131 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية