تفعيل دور الرقابة المجتمعية
أرسى الإسلام مبدأ مسؤولية المجتمع في مواجهة الفساد بكافة صوره وأشـكاله، وجعل مكافحة الفسـاد واجبا دينيا، ودليلا عمليا على صـدق الإيمان، وسببا لنيل الرحمة الإلهية، فقال تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (التوبة:71).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يسـتطع فبلسـانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" [1] .
والأمر بالمعروف يتضمن الأمر بكل خير وصلاح، والنهي عن المنكر يتضمن النهي عن كل شر وفساد.
وعلى خلاف الاعتقاد بمسؤولية الحكومات وحدها، وأنها هي القادرة على فعل كل شيء في محاربة الفساد ومواجهة المفسدين، وأن غاية ما يمكن [ ص: 132 ] أن يقوم به أفراد المجتمع في مؤازرة الدولة هو الانصياع التام للقوانين والأنظمة وعدم مخالفتها، على خلاف ذلك الاعتقاد الذي كان سائدا والذي لا زالت آثاره باقية في الوعي الجمعي لدى قطاعات كثيرة حتى أيامنا هذه، رأينا الإسلام يؤكد على الشراكة المجتمعية وعلى مسؤولية المجتمع التضامنية في مواجهة العابثين والمفسدين، ومن أروع ما يصور ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا(!!)
"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا(!!)
فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"
[2] .
ففي هذا الحديث يشبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع بسفينة، ويبين أن سعي البعض إلى إحداث خرق في السفينة يؤدي إلى هلاك الجميع، فالسفينة حين تغرق لن يغرق معها من أحدثوا الخرق فيها لوحدهم، [ ص: 133 ] بل سيغرق الجميع.. الذين خرقوا السفينة.. وأولئك الذين لم يشـاركوا في خرقها ووقفوا متفرجين!.. لكن إن قام ركاب السـفينة بواجبهم ومنعوا ذلك البعض من خرقها، فسـوف تكتب النجـاة للجميـع.. "فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
إن النصوص الشرعية المتضافرة تؤكد على مسؤولية المجتمع التضامنية تجاه مكافحة الفساد، وأن المجتمع الذي يتخلى عن تلك المسؤولية يدفع ثمنا باهظا من أمنه واسـتقراره ونمائه، قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (الأنفال:25).
ففي هذه الآية يـأمر الله مجتمع المؤمـنين باتقـاء الفتنة العـامة، التي لا تصيب الفاسدين فقط، ولكنها تطال بشرها الصالح والطالح، ويتعدى أثرها إلى كل أبناء المجتمع [3] .
وهكذا نرى الآية "تضع المجتمع أمام مسؤولياته في الحفاظ على أمنه واستقراره، وذلك من خلال ممارسة الإصلاح، ومواجهة بؤر الفساد، [ ص: 134 ] والتصدي لمظاهر الانحراف" [4] .
وانطلاقا من هذا الفهم، فإن مسؤولية المجتمع في مكافحة الفساد المالي والإداري تعني أولا وعي المجتمع بدوره في مواجهة المخاطر، التي تهدد وجوده وكيانه، وتعوق تقدمه ونمائه.
وتعني ثانيا أن المجتمع لا يكل أمر مكافحة الفساد إلى السلطات القائمة وحدها، ولكنه يسهم بفاعلية، بأفراده وبمؤسساته الأهلية والمدنية، في مكافحة الفساد، وتكوين رأي عام ضاغط على السلطات، إن هي قصرت أو تراخت أو غفلت عن مكافحة الفساد والأخذ على أيدي الفاسدين.
وبهذا الدور المجتمعي الفاعل يصبح الفساد تحت مجهر الرقابة المجتمعية والحكومية في آن معا، وتؤدي الرقابة المجتمعية وما تنتهجه من وسائل كاشفة وضاغطة إلى محاصرة الفساد، وملاحقة المفسدين، وردع من تسول له نفسه السير في طريق الفساد، وبالتالي يفقد الفساد حضوره في الحياة العامة، وينحصر في حالات فردية شاذة تقع بين الفينة والأخرى تحت طائلة القانون، وينال أصحابها الجزاء الرادع.
والمجتمعات الحديثة اليوم أصبحت تعبر عن نفسها في مؤسسات ومنظمات مدنية، وتمارس عبر تلك المؤسسات والمنظمات ووسائل الإعلام [ ص: 135 ] أدوارا مهمة في مكافحة الفساد بكافة صوره، كالفساد السياسي، والفساد الاقتصادي، والفساد الاجتماعي، والفساد البيئي، والفساد المالي والإداري... الخ.
وإدراكا منها لأهمية الشراكة المجتمعية، رأينا الاتفاقيات الدولية تؤكد أهمية دور المجتمعات في مكافحة الفساد المالي والإداري.
ففي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، نصت المادة الثالثة عشرة على: "مشاركة المجتمع".. وجاء فيها:
"تتخذ كل دولة طرف [أي طرف في الاتفاقية] تدابير مناسبة، ضمن حدود إمكاناتها، ووفقا للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي، لتشجيع أفراد وجماعات لا ينتمون إلى القطاع العام، مثل المجتمع الأهلي، والمنظمات غير الحكومية، ومنظمات المجتمع المحلي، على المشاركة النشطة في منع الفساد ومحاربته، ولإذكاء وعي الناس فيما يتعلق بوجود الفساد، وأسبابه، وجسامته، وما يمثله من خطر" [5] .
وقد أدرك المسلمون -بوحي من دينهم- مبكرا أهمية دور المجتمع في مكافحة الفساد؛ ذلك أن الإسلام يوجب على كل فرد في المجتمع أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر.. وعلى قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظهرت لدى المسلمين مؤسسة عرفت باسم (الحسبة) وهي: "وظيفة [ ص: 136 ] دينية، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقوم بها شخص مختص، وهو إما متطوع، أو معين من الدولة" [6] .
والحسبة في المنظور الحضاري الإسلامي تعني فاعلية المجتمع في حراسة القيم والمبادئ والأخلاق العامة [7] ، ولذلك فهي حق لكل مسلم، بل هي واجبة على كل مسلم، وتحويلها إلى عمل مؤسسي ينسجم مع القيم الكلية، التي يقوم عليها المجتمع المسلم، قال تعالى:
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (الحج:41).
ونضرب هنا مثالا من التجربة والخبرة التاريخية الإسلامية الخالصة على أهمية دور المجتمع في مكافحة الفساد المالي والإداري.
ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ظهرت بعض مظاهر الثراء على بعض الولاة نتيجة لدخولهم في الأعمال التجارية، وقد مر معنا كيف أوجد عمر، رضي الله عنه، نظام المقاسمة في مواجهة تلك الظاهرة، ولم يكن ذلك الإجراء قرارا تتخذه السلطة بمعزل عن توجه المجتمع، بل كانت هنالك مطالبات للخليفة عمر بمقاسمة الولاة أموالهم.
[ ص: 137 ] جاء في كتاب الأموال للفقيه الداودي المالكي (ت402هـ):
"ولما كثـرت أمـوال بعض عمال عمـر، وأكثر النـاس في ذلك، حتى قال شاعرهم:
نحج إذا حجوا ونغزو إذا غزوا فإني لهم وفر ولست بذي وفر إذا التاجر الداري جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري فدونك مال الله حيث وجدته
سيرضون إن شاطرتهم منك بالشطر
إن مسألة الثراء، التي ظهرت على بعض الولاة، في عهد الخليفة عمر، رضي الله عنه، أصبحت قضية رأي عام، كما يدل على ذلك قول الإمام الداودي (ت402هـ): "وأكثر الناس في ذلك، حتى قال شاعرهم... الخ"، ونتيجة لذلك قاسم عمر، رضي الله عنه، الولاة أموالهم، وهذا مثال يتبين من خلاله أهمية دور المجتمع، وأهمية تكوين الرأي العام المناهض للفساد، [ ص: 138 ] ودوره الحاسم في مكافحة الفساد المالي والإداري.
إن وعي المجتمعات هو الذي يصنع الفارق في مكافحة الفساد المالي والإداري وغيره من أنواع الفساد، والمجتمعات الواعية تستطيع أن تقيم من الوسائل والآليات، والأنشطة والفعاليات، ما تتمكن به من إيقاف عبث الفاسدين، وما تمنع به استشراء الفساد، وتغوله على الدولة والمؤسسات. وبذلك تؤدي الرقابة المجتمعية دورا فعالا ومؤثرا في مكافحة الفساد المالي والإداري والوقاية منه.
وما نحتاجه اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية هو الأخذ بالقيم الإسلامية، واستلهام التجربة والخبرة التاريخية، والإفادة من الآليات المعاصرة، ومن تجارب المجتمعات الأخرى في تفعيل دور المجتمع واستنهاض قدراته وإمكاناته في مكافحة الفساد المالي والإداري وسائر أنواع الفساد الأخرى.
[ ص: 139 ] [ ص: 140 ]