الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( إلا الصبح فبسدس الليل ) ش يعني أن صلاة الصبح يستحب أن يقدم أذانها قبل وقتها بمقدار سدس الليل كما صرح باستحبابه الجزولي في شرح الرسالة ، وهو المفهوم من كلام غير واحد من أهل المذهب ، وإن كان كلام ابن الحاجب يقتضي الجواز فيحمل على الاستحباب ; لأن الجواز أعم من الاستحباب كما حمل الجزولي عليه قول الرسالة : ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها إلا الصبح فلا بأس أن يؤذن لها في السدس الأخير من الليل فإن لفظ لا بأس لا يستعمل في المستحب فعله وإنما يقال في الأمر المباح الذي يستوي فعله وتركه كما ، قاله في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الصيام والمعتبر الليل الشرعي ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر كما صرح بذلك الجزولي ، وهو ظاهر .

                                                                                                                            ( تنبيه ) إذا أذن لها في السدس الآخر من الليل فلا يسن لها أذان آخر عند طلوع الفجر كما يفهم ذلك من كلام صاحب الطراز فإنه ، قال : ذهب الناس إلى أنه إنما يؤذن للصبح قبل الفجر إذا كان ثم مؤذن آخر بعد الفجر حكاه الخطابي عن بعض المتأخرين ، وهو ضعيف فإن الأذان الواقع قبل الفجر إن كان يحسب لصلاة الفجر فقد أذن لها فلا حاجة لأذان ثان ، وإن كان لا يحسب لصلاة الفجر فلا معنى له ; لأن الأذان إنما يكون للصلاة انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) يفهم من هذا أن السنة تحصل بالأذان قبل الفجر ، وهو ظاهر لكنه لا يمتنع تعدد المؤذنين كما سيأتي ، وقد قال ابن حبيب يؤذن في الصبح والظهر والعشاء عشرة ، وفي [ ص: 429 ] العصر خمسة ، وفي المغرب واحد . التونسي أو جماعة معا ، وفي كلام صاحب المدخل : ما يؤذن بأن الأذان لها عند الفجر مشروع فإنه ، قال : وقد رتب الشارع صلوات الله وسلامه عليه للصبح أذانا قبل طلوع الفجر وأذانا عند طلوعه ، وقال قبل ذلك : والسنة المتقدمة في الأذان أن يؤذن واحد بعد واحد في الصلوات التي أوقاتها ممتدة فيؤذنون في الظهر من العشرة إلى خمسة عشر ، وفي العصر من الثلاثة إلى الخمسة ، وفي العشاء كذلك ، والصبح يؤذن لها على المشهور من سدس الليل الأخير إلى طلوع الفجر ، وفي كل ذلك يؤذن واحد بعد واحد انتهى . ثم ذكر بعد ذلك أن المؤذن الأخير لها يؤذن عند طلوع الفجر والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) قال الجزولي إنما شرع لها الأذان فقط وأما غيره من الدعاء والتسبيح وغيره مما يقوله المؤذنون فغير مشروع ابن شعبان بدعة انتهى .

                                                                                                                            وقال في المدخل : وينهى الإمام المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل ، وإن كان ذكر الله حسنا سرا وعلنا لكن في المواضع التي ذكرها الشارع ولم يعين فيها شيئا معلوما ، وقد رتب الشارع للصبح أذانا قبل طلوع الفجر ، وأذانا عند طلوعه ثم ذكر أنه يترتب على ذلك مفاسد منها التشويش على من في المسجد يتهجد أو يقرأ ، ومنها اجتماع العوام لسماع تلك الألحان ، فيقع منهم زعقات وصياح عند سماعها ، ومنها خوف الفتنة بصوت الشباب الذين يصعدون على المنائر للتذكار ثم ، قال بعد ذلك ، وينهى المؤذنون عما أحدثوه في شهر رمضان من التسحير ; لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ولم يكن من فعل من مضى ، وذكر اختلاف عوائد الناس في التسحير ، فمنهم من يسحر بالآيات ، والأذكار على الموادن ، ومنهم من يسحر بالطبلة ، ومنهم من يسحر بدق الأبواب ويقولون : قوموا كلوا ، ومنهم من يسحر بالطار ، والشبابة والغناء ، ومنهم من يسحر بالبوق ، والنفير وكلها بدع وبعضها أشنع من بعض ، ورد على من يقول أنها بدعة مستحسنة ، وأنكر أيضا تعليق الفوانيس في المنائر علما على جواز الأكل والشرب في رمضان وعلى تحريمهما إذا أنزلوها ، قال وكذلك يمنع لوجوه : منها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أرادوا أن يعلموا وقت الصلاة بأن ينوروا نارا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان بدلا من ذلك ، ومنها : أن في ذلك تغريرا للصائم ; لأنه قد ينطفئ في أثناء الليل فيظن من لا يراه أن الفجر قد طلع فيترك الأكل والشرب ، وقد ينساه من هو موكل به فيظن من يراه أن الفجر لم يطلع فيأكل أو يشرب فيفسد صومه ، ثم قال وينهى المؤذنين عما أحدثوه من التذكار يوم الجمعة لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به ولا فعله أحد بعده من السلف الماضين بل هو قريب العهد بالحدوث أحدثه بعض الأمراء ، وهو الذي أحدث التغني بالأذان انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا الذي قاله خلاف ما ذكره ابن سهل عن ابن عتاب والمسيلي أنهما أجازا قيام المؤذنين بعد نصف الليل بالذكر والدعاء وذكر ابن دحون وابن جرج خالفا في ذلك ، وقالا في مؤذن يقوم في جوف الليل ويؤذن ويتهلل بالدعاء ويتردد في ذلك إلى أن يصبح ، وقام عليه قائم ، وقال : إن في ذلك ضررا على الجيران أنه يؤمر أن يقطع الضرر ويجري على ما كان عليه الناس من الأذان المعهود في الليل على ما كان عليه من أفعال الصالحين وذكره ابن عرفة في باب إحياء الموات من مختصره وجزم بأن قيام المؤذن في آخر الليل بالذكر والدعاء مع حسن النية قربة وجعل الخلاف في قيامه قبل ذلك ونصه :

                                                                                                                            " ورفع الصوت بالدعاء والذكر بالمسجد آخر الليل مع حسن النية قربة وجوازه بعسعسة الليل مع مضي نصفه ومنعه نقلا ابن سهل عن ابن عتاب محتجا بقول مالك بعدم منع صوت ضرب الحديد مع المسيلي وابن دحون مع ابن جرج محتجين بوجوب الاقتصار على فعل السلف الصالح انتهى . بلفظه [ ص: 430 ] وفي النوادر قال علي بن زياد عن مالك وتنحنح المؤذن في السحر محدث وكرهه انتهى . وقال في البرهان للبقاعي الشافعي : إن التسبيح مشروع لانطلاق علة الأذان عليه ، وهو قوله : صلى الله عليه وسلم { لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ، ويوقظ نائمكم } رواه الستة إلا الترمذي وأيضا فقد { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام ، فقال : يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه } رواه أحمد والترمذي ، وقال حسن صحيح ، والحاكم وصححه انتهى . ورد عليه الحافظ السخاوي بأن شيخ الإسلام أعلم المتأخرين بالسنة الحافظ ابن حجر لما نقل عن بعض الحنفية أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان ، وإنما كان تكبيرا أو تسبيحا كما يقع للناس اليوم ، قال : هذا مردود ; لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا وقد تظافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان فحمله على معناه الشرعي مقدم ولو كان الأذان الأول بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين ، ومساق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس ، وذكر أيضا عن ابن المنير : أن حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن من قول أو فعل وهيئة ، وقال : إنه غريب ، قال ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان وليس كذلك لا لغة ولا شرعا انتهى .

                                                                                                                            والحاصل أن التسبيح والتذكير محدث قطعا وإنما الخلاف هل هو بدعة حسنة أو مكروهة ؟ فقال كثير من العلماء : إنه بدعة حسنة في آخر الليل ، واختلفوا في فعله في نصف الليل كما تقدم والله تعالى أعلم ، ورد السخاوي على البقاعي في قوله : إن حديث الترمذي صحيح ، وقال : إنه ليس في نسخته من الترمذي أنه صحيح ، قال وليس ذلك في نسخة ابن حجر ولا العراقي وفي صحيح الحاكم له منازع .

                                                                                                                            ( فرع ) قال في المدخل وكذلك ينبغي أن ينهاهم الإمام عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ثم ذكر أنهم أحدثوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أربع مواضع لم يكن يفعل فيها في عهد من مضى مع أنها قريبة العهد بالحدوث ، وهي عند طلوع الفجر من كل ليلة وبعد أذان العشاء ليلة الجمعة ، وبعد خروج الإمام في المسجد يوم الجمعة ليرقى المنبر وعند صعود الإمام عليه والكل في الأحداث قريب من قريب أعني في زماننا هذا انتهى ، وقال السخاوي في القول البديع : أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان للفرائض الخمس إلا الصبح والجمعة فإنهم يقدمون ذلك قبل الأذان وإلا المغرب فلا يفعلونه لضيق وقتها وكان ابتداء حدوثه في أيام الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وبأمره ، وذكر بعضهم أن أمر الصلاح بن أيوب بذلك كان في أذان العشاء ليلة الجمعة ، ثم إن بعض الفقراء زعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول للمحتسب أن يأمر المؤذنين أن يصلوا عليه عقب كل أذان فسر المحتسب بهذه الرؤيا فأمر بذلك واستمر إلى يومنا هذا ، وقد اختلف في ذلك ، هل هو مستحب أو مكروه أو بدعة أو مشروع ؟ واستدل للأول بقوله : " وافعلوا الخير " ومعلوم أن الصلاة والسلام من أجل القرب لا سيما وقد تواترت الأخبار على الحث على ذلك مع ما جاء في فضل الدعاء عقبه ، والثلث الأخير وقرب الفجر ، والصواب أنه بدعة حسنة وفاعله بحسب نيته انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وقد أحدث بعض المؤذنين بمكة بعد الأذان الأول للصبح أن يقول : يا دائم المعروف يا كثير الخير يا من هو بالمعروف معروف يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ، وذكر البرهان البقاعي أنه حصل بين فقهاء مكة اختلاف في إنكار ذلك ، وفتنة عظيمة بحيث كادوا يقتتلون ثم إنه أحدث في مصر في سنة إحدى وسبعين ، وأنكر ذلك وبالغ في ذلك فألف فيه جزءا سماه [ ص: 431 ] القول المعروف في مسألة يا دايم المعروف } ، وخالفه الحافظ السخاوي وألف جزءا في الرد عليه سماه { القول المألوف في الرد على منكر المعروف } ، وقال فيه بعد كلام كثير : فعلم أن المؤذن قد أتى بسنة شريفة ، وهي الدعاء في هذا الوقت المرجو الإجابة ، وكونه جهر به ملتحق بالمواطن التي جاءت السنة بالجهر فيها فهو إن شاء الله سنة ، وما ذكره يعني البقاعي من المفسدة فهو فاسد كما تقرر وليس بمنحط الرتبة عن التسبيح الذي كاد يسميه سنة انتهى .

                                                                                                                            يعني ما تقدم في قوله : إنه مشروع ، وأما المفسدة التي أشار إليها البقاعي فهو أنه يأتي به متصلا بالأذان وبصوت الأذان على المنار فيظن من لا علم عنده أن ذلك من الأذان ، ثم ذكر السخاوي عن جماعة من الشافعية وغيرهم أفتوا بجواز ذلك والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية