وفي الكشف: لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى: وبلغت القلوب الحناجر قيل: في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل.
وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية، وعدي الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي.
إذ قاموا متعلق بربطنا، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم: قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين.
أخرج ابن المنذر أنهم خرجوا من وابن أبي حاتم المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم: هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض. فقالوا أيضا: نحن كذلك فقاموا جميعا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض وقد تقدم آنفا عن القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال: إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك. ابن عباس
وقال صاحب «الغنيان» المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دعاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به، وقيل: المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان. وقال المراد قيامهم من النوم وليس بشيء، ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان، وما أحسن ما قالوا؛ فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا: عطاء: لن ندعو من دونه إلها وجاءوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل: إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى: لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا، قيل: وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم «إلها» للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية [ ص: 219 ] لا بطريق المالكية المجازية.
وقد يقال: إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول؛ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وصح أنهم يقولون أيضا: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وجاءوا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان، وابتدءوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه: ألست بربكم وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل: إن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل، ولا تعجل بالاعتراض.
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من النكرة بعده، ولو أخر لكان صفة أي: لن ندعو إلها كائنا من دونه تعالى لقد قلنا إذا شططا أي: قولا ذا شطط، أي بعد عن الحق مفرط أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة، وجوز كون «شططا» مفعولا به لقلنا، وفسره قتادة بالكذب، أبو البقاء بالخطأ، وابن زيد بالجور، والكل تفسير باللازم، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد، وأنشدوا: والسدي
شط المراد بحزوى وانتهى الأمل
وفي الكلام قسم مقدر، واللام واقعة في جوابه، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر، أي: لو دعونا وعبدنا من دونه إلها والله لقد قلنا إلخ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود، والتضرع إليه، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك