والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعا بعد، كأنه قيل: سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكهف أو إذا سئلوا عن عدتهم هم: ثلاثة أي: ثلاثة أشخاص رابعهم أي: جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كلبهم فثلاثة خبر مبتدأ محذوف و رابعهم كلبهم مبتدأ وخبر، ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة في موضع النعت ل «ثلاثة»، والضميران لها لا للمبتدأ، ومن ثم استغني عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال: هم ثلاثة وكلب، لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة اصطحبوا، ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه، وكذا يقال فيما بعد، وإلى هذا الإعراب ذهب واختاره العلامة أبو البقاء الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية حديث: «ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما».
فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه، ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه، ولم يجوز كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره ابن الحاجب كأبي البقاء جعلها حالا وجعلها خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك. [ ص: 241 ] وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال؛ لأنه لا تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين، وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة. والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري. وقرأ ابن محيصن «ثلات» بإدغام الثاء في التاء تقول: ابعث تلك، وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين.
ويقولون خمسة سادسهم كلبهم عطف على سيقولون والمضارع وإن كان مشتركا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفي عن السين فيه، وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل: إن العطف على ذلك تكلف. وقرأ شبل بن عباد عن «خمسة» بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها، نظير الفتح والسكون في العشرة. وقرأ ابن كثير: ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة.
رجما بالغيب أي: رميا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بذلك، وعلى الأول استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به. وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه بمنزلة الرجام المرمي به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا: قذفا بالغيب ورجما به ولم يقولوا: رميا به، وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمي تأثير السهم في الرمية. انتهى.
وعلى الثاني شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له وضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه. وفي الكشف أيضا أنه لما كثر استعمال قولهم: رجما بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا: رجما بالغيب؛ أي: ظنا به، وعلى ذلك جاء قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
حيث أراد المظنون، وانتصاب رجما هنا على الوجهين؛ إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد.
وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي: يرجمون رجما، وجوز أبو حيان كونه منصوبا على أنه مفعول من أجله؛ أي: يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك؛ أي الحامل لهم على القول هو الرجم بالغيب، وهو كما ترى.
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم المراد الاستقبال أيضا، والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه، والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله عز وجل: الزمخشري، وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم [ ص: 242 ] غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين، والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه: رجما بالغيب وأتبع هذا قوله عز وجل: قل ربي أعلم بعدتهم أي: أقوى وأقدم في العلم بها ما يعلمهم أي: ما يعلم عدتهم على ما ينساق إلى الذهن نظرا إلى المقام إلا قليل وعلى إيذان الواو بما ذكر يدل كلام رضي الله تعالى عنهما، فقد روي أنه قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات. ابن عباس
وقد نص على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل: من البشر مطلقا وهو الذي يقتضيه ما أخرجه عطاء في الأوسط بسند صحيح عن الطبراني أنه قال: أنا من أولئك القليل، وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى، وأخرج نحوه ابن عباس عن ابن أبي حاتم ابن مسعود.
وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر، والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز وجل، هذا وإلى كون الواو كما ذكر ذهب الزمخشري ابن المنير وقال بعد نقله: وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم، ورد ما ذكروه من ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه التنبيه عليه.
وقال الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو البقاء: كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة، وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف، هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها. أبو حيان:
وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن: «وليس باسم إلخ» صفة لمعنى، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام سيبويه: العرب وليس من كلامهم: مررت برجل ويأكل؛ على تقدير الصفة، وأما قوله تعالى: إلا ولها كتاب معلوم فالجملة فيه حالية ويكفي ردا لقول أنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إليه اه. الزمخشري:
وقال صاحب الفرائد: دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم لاتحاد الصفة والموصوف ذاتا وحكما وتأكيدا للصوق يقتضي الاثنينية مع أنا نقول: لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد، وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبئ عن الاثنينية، واجتماع الصفة والموصوف ينبئ عن الاتحاد بالنظر إلى الذات. وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال: إن الواو في قوله تعالى: ولها كتاب معلوم داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه، وإنما هي واو الحال، وذو الحال ( قرية ) وهي موصوفة أي: وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها... إلخ، وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان: أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفا على رجل؛ أي: جاءني رجل ورجل آخر معه، وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين، وأما الواو في مررت بزيد وفي مررت بزيد وفي يده سيف، فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف [ ص: 243 ] الصفة بالنسبة إلى الموصوف، فإن: جاء زيد راكبا في حكم: جاء وهو راكب، بخلاف: جاء زيد الراكب. فافهمه.
سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم وأين الدليل عليه؟ وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد، والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر، وإن أريد منه أنه يدل على صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن اتباع القولين الأولين ب «رجما بالغيب» يدل على عدم الصدق دلالة لا شبهة فيها، لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة، ولا نسلم أيضا دلالة كلام على ما ذكر، والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وأن مراده من قوله: حين وقعت الواو انقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به، فالحق أن الواو واو عطف، والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله. وانتصر العلامة ابن عباس الطيبي وأجاب عما اعترض به عليه فقال: اعلم أنه لا بد قبل الشروع في الجواب من تبيين المقصود تحريرا للبحث؛ فالواو هنا ليست على الحقيقة ولا يعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة، وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم، ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك كعلم النحو، والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل قد يقع في الحروف. للزمخشري
وقد نقل شارح اللباب عن أن الواو في قولهم: بعت الشاة ودرهما؛ بمعنى الباء، وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق، وهما من واد واحد، فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم، وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله: فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف، فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه، وأن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار، ألا ترى أن صفة النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك، ثم إن قولك: جاءني رجل ومعه آخر وقولك: مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كان حكمهما سواء في الواو وهو مراد سيبويه من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم، وأما قول الزمخشري الفراهيدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتا وحكما وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبني على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط.
وأما قوله في: جاءني رجل ومعه آخر إنه جملتان فهو كما تراه، وأما قوله: إن: «جاء زيد راكبا» في حكم: «جاء زيد وهو راكب» فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الإفراد كما يدل عليه كلام وغيره من الأعيان، وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته، ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه ابن الحاجب ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الأمارات وتكفي في هذه المقامات، وقال الزمخشري لا يجوز أن يكون: ابن الحاجب: رابعهم كلبهم و سادسهم كلبهم صفة لما قبل ولا حالا لعدم العامل مع عدم الواو، ويجوز أن يكون كل منهما خبرا بعد خبر للمبتدأ [ ص: 244 ] المحذوف، والأخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه، وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد، أما إذا قيل: إن قوله تعالى: وثامنهم كلبهم استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرا بعد خبر، ويقويه ذكر رجما بالغيب قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن الله تعالى قال: ما يعلمهم إلا قليل فلو جعل: وثامنهم كلبهم تصديقا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرا، فإن إخبار الله تعالى صدق؛ فدل على أنه لم يصدق منهم أحد، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى. ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء.
وقوله: وإذا كان كذلك وجب إلخ؛ كلام بمراحل عن مقتضى البلاغة لأن في كل اختلاف فوائد، والبليغ من ينظر إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام، وأيضا لا بد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى: ما يعلمهم إلا قليل مع قوله سبحانه: رجما بالغيب لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا.
وتعقيبه به أمارة على صدقه وذلك مفقود على ما ذهب إليه السائل، ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام. وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرا على تقدير كون: وثامنهم كلبهم استئنافا منه تعالى لأن إخبار الله تعالى صدق لا يخلو عن بحث؛ لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة، وإن أخرج عن ابن أبي حاتم أنه قال: كل قليل في القرآن فهو دون العشرة؛ فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير، على أنه يمكن أن يقال: المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى، ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما، نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين. هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال: وهب بن منبه
الظاهر أن قوله تعالى: وثامنهم كلبهم صفة لسبعة كما يشهد به أخواه، وأيضا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في قرية في قوله تعالى: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم حتى يصح الحمل على الحال اتفاقا، ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق، وباب المجاز مفتوح فلتحمل هذه الواو عليه تأكيدا للصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضا فرعا للعاطفة كالتي بمعنى مع والحالية والاعتراضية.
وأيد ذلك أيضا بما روي عن وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغني أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ. ابن عباس
وقد وافق ابن مالك الرادين له فقال في شرح التسهيل: ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه: أحدها: أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة؛ لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الإعراب والتعريف والتنكير، وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية [ ص: 245 ] وامتناع ذلك في الواقعة نعتا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية، الثاني: أن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يلتفت إليه، الثالث: أنه معلل بما لا يناسب؛ وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد، الرابع: أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال: إنها أكدت لصوقها، الخامس: أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال اه، ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم.
والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلا عن فحول الرجال؛ فتأمل ذاك. والله تعالى يتولى هداك.
وقال بعضهم: إن ضمائر الأفعال الثلاثة للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم، فالقول الأول لليهود على ما أخرجه عن ابن أبي حاتم وقيل: لسيد من سادات نصارى السدي، العرب النجرانيين وكان يعقوبيا، وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فذكر من عدتهم ما قصه الله تعالى شأنه، ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك، والقول الثاني على ما روي عن أيضا النصارى ولم يقيدهم، وقيل: العاقب ومن معه من نصارى السدي نجران وكانوا وافدين أيضا وكان نسطوريا، والقول الثالث لبعض المسلمين، وكأنه عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك أمارة على الحقية، والمراد بالقليل على هذا من وقفه الله تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو.
وقيل: إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك عن إعلام الله تعالى إياه به.
وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد، ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك.
وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين، ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بشيء وقوف جميع الصحابة عليه، فكم من خبر تضمن حكما شرعيا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة والسلام واحد منهم رضي الله تعالى عنهم، فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك، واستشهاده رضي الله تعالى عنه نصا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بناء على ما وقفت عليه آنفا؛ فهو ليس نصا في عدم الوقوف.
وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الإمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم لابن عباس العرب الذين أرضعوا ثدي البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية، وقلما تنزل آية ولا تلقي عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في [ ص: 246 ] الاستماع ومزيد حرصه صلى الله عليه وسلم على إسماعهم، ومتى فهم وأضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم لم يفهم أصحابه عليه الصلاة والسلام ذلك وهم هم، أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الأعجام شعروا وأكثر أولئك الزمخشري العرب لم يشعروا؟ أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك بمجرد السليقة؟ ولا يكاد يدفع هذا الإيراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون؛ لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى.
وقيل: إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى، واليعقوبية الجملة الثانية، والنسطورية الجملة الثالثة، ويروى هذا عن رضي الله تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكي عن بعضهم. ابن عباس
وقال واستظهره الماوردي إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من اختلاف قومهم في عددهم، ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى: أبو حيان: قل ربي أعلم بعدتهم وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمي على القوم أثرهم، وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبني عليهم مسجد، فلو قيل على هذا: إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقالت كل طائفة منهم ما قالت، ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم، فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن فتدبر. ومن غريب ما قيل: إن الضمير في: ( يقولون سبعة ) لله عز وجل والجمع للتعظيم. وأسماؤهم على ما صح عن الماوردي ابن عباس: مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير.
وروي عن أن أسماءهم علي كرم الله تعالى وجهه يمليخا ومكشيلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره، وكان يستشير الستة، والسابع الراعي، ولم يذكر في هذه الرواية اسمه، وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير.
وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله تعالى وجهه مقال، وذكر العلامة السيوطي في حواشي أن البيضاوي روى ذلك عن الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح. ابن عباس
والذي في الدر المنثور رواية في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن الطبراني والله تعالى أعلم. ابن عباس.
وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها. وفي البحر: أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط، والسند في معرفتها ضعيف، وذكروا لها خواص فقال البخاري عن النيسابوري إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب في وسط الزرع [ ص: 247 ] وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر، ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل. انتهى، ولا يصح ذلك عن ابن عباس: ولا عن غيره من السلف الصالح، ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول، وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب. وقرئ «وثامنهم كالبهم» أي: صاحب كلبهم. ابن عباس
واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال، وأول القراءة المواترة بأنها على حذف مضاف؛ أي: وصاحب كلبهم وهو كما ترى.
فلا تمار الفاء لتفريع النهي على ما قبله، والمماراة على ما قال المحاجة فيما فيه مرية؛ أي: تردد، وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقا؛ أي: إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئا ومصيبا فلا تجادلهم الراغب فيهم أي: في شأن الفتية إلا مراء ظاهرا غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم؛ فإن فيهم مصيبا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم؛ فإن ذلك مما يخل بمكارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها.
وقال المراد الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون. ابن زيد:
وحكى أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة، وقال الماوردي هو جدال العالم المتيقن بحقيقة الخبر، وقال ابن الأنباري: ابن بحر: هو ما يشهده الناس، وقال المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، وأنشد: التبريزي:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي: ذاهب.
ولا تستفت ولا تطلب الفتيا فيهم في شأنهم منهم من الخائضين أحدا فإن فيما أفتيناك غنى عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارم الأخلاق؛ إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك، وقيل: المعنى: لا ترجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي، وقيل: المعنى: إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهم إلا جدالا ظاهرا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى.