ولقد أريناه حكاية أخرى إجمالية لما جرى بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة .
وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها . والإراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهي أيضا متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة ، ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدي إلى اثنين بنفسه وإلى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الإعلام وهو غير جائز .
وإسناد الإراءة إلى ضمير العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه السلام نظرا إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شناعة اللعين وتماديه في الطغيان . وهذا الإسناد يقوي كون ما تقدم من قوله تعالى (الذي) إلخ من كلامه عز وجل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه آياتنا حين قال لموسى عليه السلام : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين .
وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء . فإنه روي أنه عليه السلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا . وقد تقدم نحوه عن ، وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو وهب بن منبه فرعون وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون : أنشدك إلخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين بياضا نورانيا خارجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحا أكدت بقوله تعالى (كلها) كأنه قيل : أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصد إلى بيان أنه لم يبق في ذلك عذر ما . والإضافة على ما قرر للعهد . وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها في قوله تعالى اذهب أنت وأخوك بآياتي وقيل : المراد بها آيات موسى عليه السلام التسع كما روي عن فيما تقدم والإضافة للعهد أيضا . وفيه أن أكثرها إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة . ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد ، وعد بعضهم منها ما جعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد مهلكه من الآيات الظاهرة [ ص: 216 ] لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر الذي انفجرت منه العيون . وعد آخرون منها الآيات الظاهرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام وحملوا الإضافة على استغراق الإفراد . وبنى الفريقان ذلك على أنه عليه السلام قد حكى جميع ما ذكر ابن عباس لفرعون، وتلك الحكاية في حكم الإظهار والإراءة لاستحالة الكذب عليه عليه السلام . ولا يخفى أن حكايته عليه السلام تلك الآيات مما لم يجر لها ذكر هاهنا مع أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى من حمل ما أظهره عليه السلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل مما يبعد ذلك جدا . وأبعد من ذلك كله إدراج ما فصله عليه السلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه سبحانه بالربوبية وأحكامها في الآيات ، وقيل : الإضافة لاستغراق الأنواع و ( كل ) تأكيد له أي أريناه أنواع آياتنا كلها ، والمراد بالآيات المعجزات وأنواعها وهي كما قال : ترجع إلى إيجاد معدوم أو إعدام موجود أو تغييره مع بقائه وقد أري اللعين جميع ذلك في العصا واليد وفي الانحصار نظر ومع الإغماض عنه لا يخلو ذلك عن بعد ، وزعمت الكشفية أن المراد من الآيات السخاوي أظهره الله تعالى علي كرم الله تعالى وجهه لفرعون راكبا على فرس، وذكروا من صفتها ما ذكروا . والجمع كما في قوله تعالى آيات بينات مقام إبراهيم وظهور بطلانه يغني عن التعرض لرده .
والفاء في قوله تعالى (فكذب) للتعقيب والمفعول محذوف أي فكذب الآيات أو موسى عليه السلام من غير تردد وتأخير (وأبى) أي : قبول الآيات أو الحق أو الإيمان والطاعة أي امتنع عن ذلك غاية الامتناع وكان تكذيبه وإباؤه عند الأكثرين جحودا واستكبارا وهو الأوفق بالذم . ومن فسر أرينا بعرفنا وقدر مضافا أي صحة آياتنا وقال : إن التعريف يوجب حصول المعرفة قال بذلك لا محالة .