فأصبح ذلك كالسامري إذ قال موسى له لا مساسا
وأنكر ما تقدم من حديث عر والحمى عند المس وقال : إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول ، والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس وأريد بالنفي النهي أي لا تمسني ولا أمسك . وقرأ الجبائي الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب ( لا مساس ) بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار ، ونحوه قولهم في الظباء إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب . وهي كما قال الزمخشري أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب أي الطلب ، ومن هذا قول الشاعر : وابن عطية:
تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساس
و ( لا ) على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخلة معنى عليه فإن المعنى لا يكون أو لا يكن منك مس لنا . وهذا أولى من أن يكون المعنى لا أقول مساس .
وظاهر كلام أنه اسم فعل كنزال . والمراد نفي الفعل أي لا أمسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل : إنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه، فكان سببا لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة . ابن جني
وقيل : لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء ، وقيل : عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فإن ذلك التحامي أشبه شيء بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر باجتهاد من موسى عليه السلام ، وحكي فيه القول بأنه أراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخيا ، وروي ذلك عن الصادق رضي الله تعالى عنه ، وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم . ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في القاتل اللاجئ إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل وإن لك موعدا أي في الآخرة لن تخلفه أي : لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا كأجبنته إذا وجدته جبانا . وعلى ذلك قول والأعمش الأعشى :
أثوى وقصر ليله ليزودا فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود . والمعنى [ ص: 257 ] لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله ، ونقل ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ ( لن تخلفه ) بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام ، وفي اللوامح أنه قرئ ( لن يخلفه ) بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده ، قيل : المعنى على الرواية الأولى وإن لك موعدا لا بد أن تصادفه ، وعلى الرواية الثانية وإن لك موعدا لا يدفع قول لا مساس فافهم .
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه ( لن نخلفه ) بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عز وجل ، وقال والحسن : أي لن نصادفه خلفا فيكون من كلام ابن جني موسى عليه السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة وانظر إلى إلهك أي : معبودك الذي ظلت أي ظللت كما قرأ بذلك أبي فحذفت اللام الأولى تخفيفا ، ونقل والأعمش عن أبو حيان أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل ، وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة سيبويه بني سليم حيث سكن آخر الفعل ، وقال بعضهم : إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة .
وقرأ ابن مسعود وقتادة بخلاف عنه والأعمش وأبو حيوة وابن أبي عبلة بخلاف عنه أيضا ( ظلت ) بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام إليها بعد حذف حركتها ، وعن وابن يعمر أنه ضم الظاء وكأنه مبني على مجيء الفعل في بعض اللغات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر ابن يعمر عليه أي : على عبادته عاكفا أي مقيما ، وخاطبه عليه السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال لنحرقنه جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر عن وابن أبي حاتم ، ويؤيده قراءة ابن عباس الحسن وقتادة وأبي جعفر في رواية . وأبي رجاء (لنحرقنه) مخففا من أحرق رباعيا فإن الإحراق شائع فيما يكون بالنار وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم . وكذا ما في مصحف والكلبي أبي وعبد الله ( لنذبحنه ثم لنحرقنه ) .
وجوز أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقا بفتح الراء إذا برده بالمبرد . ويؤيده قراءة أبو علي . علي كرم الله تعالى وجهه وحميد وعمرو بن فايد وأبي جعفر في رواية . وكذا رضي الله تعالى عنهما (لنحرقنه) بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فإن حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل ، وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقيا على الجمادية . ابن عباس
وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حيا في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق ، وقال بعض القائلين بأنه صار حيوانا ذا لحم ودم : إن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى ، وقال النسفي : تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فإنه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق . وجوز على هذا أن يقال : إنموسى عليه السلام حرقه بالمبرد ثم أحرقه بالنار . وتعقب بأن النار تذيبه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رمادا فلعل ذلك كان بالحيل الإكسيرية أو نحو ذلك ثم لننسفنه أي : [ ص: 258 ] لنذرينه . وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين . وقرأ (لننسفنه) بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين ابن مقسم في اليم أي في البحر كما أخرج ذلك عن ابن أبي حاتم . ابن عباس
وأخرج عن أنه فسره بالنهر ، وقوله تعالى علي كرم الله تعالى وجهه نسفا مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ولا يصادف منه شيء فيؤخذ ، ولقد فعل عليه السلام ما أقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر ، وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين ، وفي ذلك زيادة عقوبة للسامري وإظهار لغباوة المفتتنين ، وقال في البحر بيانا لسر هذا الفعل : يظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلي الذي كان أصله للقبط وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم وألقى في محل ما قامت به الحياة وأن أموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه أشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه .