ونفخ في الصور المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى الإجماع عليه . وفي حديث أخرجه القرطبي ابن ماجه والبزار عن وابن مردويه مرفوعا أبي سعيد الخدري أن النافخ اثنان ، ويدل عليه أيضا أخبار أخر ، منها ما أخرجه . أحمد عن والحاكم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ابن عمر وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره أي «النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا » إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر حتى يشير إليه فينفخ في الصور . والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة . وأخرج [ ص: 28 ] عن أبو الشيخ أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه . وأنكر بعضهم ذلك وقال : هو جمع صورة كما في قراءة وهب قتادة «في الصور » بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل : ووقع النفخ في الصور وزيد بن علي فصعق من في السماوات ومن في الأرض أي ماتوا بسبب ذلك ، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولا ثم يموتون ، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات .
وفي صحيح من حديث طويل فيه ذكر مسلم الدجال ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس » ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى وقرئ «فصعق » بضم الصاد «ثم إلا من شاء الله قال : السدي جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ، وقيل : هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد ، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في الدر المنثور ، وقيل : رضوان والحور ومالك والزبانية وروي ذلك عن ، وقيل : من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا قال في البحر : وهذا نظير الضحاك لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [الدخان : 56] ومن الغريب ما حكي فيه أن المستثنى هو الله عز وجل ، ولا يخفى عليك حاله متصلا كان الاستثناء أم منقطعا ، وقيل : هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك ، وقيل غير ذلك .
ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف ، وقيل : إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح ثم نفخ فيه أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها أخرى أي نفخة أخرى ، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها ها هنا وجه ، ( وأخرى ) تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى ، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل ، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف . وصح في صحيحي البخاري ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء .
جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتنبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن مرفوعا ولم يبين فيه ما هذه الأربعون . أبي هريرة
وفي حديث أخرجه أنها أربعون عاما ، وأخرج أبو داود عن عبد بن حميد عبد الله بن العاص قال : ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر فإذا هم قيام قائمون من قبورهم ينظرون أي ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، وقيل : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم . وتعقب بأن قولهم عند قيامهم من بعثنا من مرقدنا يأباه ظاهرا نوع إباء .
وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم . واعترض بأن قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [يس : 51] ظاهر في خلافه لأن النسل الإسراع [ ص: 29 ] في المشي ، وكذا قوله تعالى : يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [المعارج : 43] وقرأ «قياما » بالنصب على أن جملة ( ينظرون ) خبرهم «وقياما » حال من ضمير ( ينظرون ) قدم للفاصلة ، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك . وفي البحر النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو ( إذا ) الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفا أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياما ، وإذا نصب «قياما » على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان ( إذا ) ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام زيد بن علي فتقديره فبالحضرة هم قياما ، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه سيبويه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقديره هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة ، وإن كانت ( إذا ) حرفا كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا إن اعتقدنا أن ( ينظرون ) هو الخبر ويكون عاملا في الحال . انتهى . . ولعمري ( إن ) مذهب الكوفيين أقل تكلفا ، هذا وها هنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض . فإنه قد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم عن قال : أبي هريرة المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى » وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن «قال رجل من اليهود بسوق موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين ، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي ، ويدل كما قال بعض الأجلة : على أنها نفخة البعث .
وقال : يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثا وهو اختيار القاضي عياض ابن العربي . ورده بأن أخذ القرطبي موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل .
ثم قال : والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا : إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشي عليه ، ولذا وقع في الصحيحين . انتهى . ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معا أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعد الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر . فأكون أول من يفيق