ولا تكونوا كالذين تفرقوا وهم اليهود والنصارى ، قاله الحسن والربيع .
وأخرج عن ابن ماجه عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة وسبعون في النار ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار . قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة " .
وفي رواية عن أحمد مرفوعا : معاوية " إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة .
وفي رواية له أخرى عن مرفوعا أيضا : أنس . إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة ، فهلكت سبعون فرقة ، وخلصت فرقة واحدة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة "
ولا تعارض بين هذه الروايات ؛ لأن الافتراق حصل لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر .
( واختلفوا ) في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد ، قيل : وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد ، وقيل : التفرق بالعداوة ، والاختلاف بالديانة .
من بعد ما جاءهم البينات أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة ، وقال : التوراة ، وقال الحسن قتادة وأبو أمامة : القرآن . ( وأولئك ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة لهم عذاب عظيم (501) لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور ، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب ، ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ، ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه ، وقيل : إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها - كالماتريدي والأشعري - فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد .
واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام : اختلاف أمتي رحمة ، وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه ، فإن لم يكن في كتاب [ ص: 24 ] الله تعالى فسنة مني ماضية ، فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة . وأراد بهم صلى الله تعالى عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد ، والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافا لمن وهم ، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة .
فقد أخرج في المدخل عن البيهقي القاسم بن محمد قال : اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى ، وأخرجه في طبقاته بلفظ : كان اختلاف أصحاب ابن سعد محمد رحمة للناس ، وفي المدخل عن قال : ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا ؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة . واعترض الإمام عمر بن عبد العزيز السبكي بأن : " اختلاف أمتي رحمة " ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ، ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس ، بأن يكون أحد قال : " اختلاف الأمة رحمة " فأخذه بعضهم فظنه حديثا فجعله من كلام النبوة ، وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له ، واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف ، والآيات أكثر من أن تحصى ، ومن الأحاديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " " إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم قال : والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف ، وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام : أحدها في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن ، والثاني في الآراء والحروب ، ويشير إليه لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : " تطاوعا ولا تختلفا " ، ولا شك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية ، والثالث في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما ، والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا ؟ فيه خلاف ، فكلام قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول ، وأما نحن فإنا نجوز من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني ، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال : الاختلاف رحمة ، فإن الرخص منها بلا شبهة ، وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف ، فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف ، وجهة الرحمة تختلف ، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده ، والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك ، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت ما في حالة ما على وجه ما ، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا ، وكذا إن لم يكنه ، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به ، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا ؟ فإن قلنا : إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد ، والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب ، والاختلاف حينئذ منهي عنه ، وإن عذر المخطئ وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق . التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث وابن ماجه عمرو بن العاص : " وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين ، وأما إذا قلنا : كل مجتهد مصيب ، فكل أحد مأمور بالاجتهاد ، وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهيا عنه ، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير [ ص: 25 ] في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا : المصيب واحد ، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع ، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " الحليمي في شعب الإيمان ، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك ، فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط ، فلا بد لتخصيص الأمة من وجه ، ووجهه بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم ، فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم ، لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف ، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المتبادر ، وتأويل الخبر بما تقدم . إمام الحرمين
هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به ، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء ، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي ، ولم يذكر سنده ولا صحته ، لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف ، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه ، الطبري في المدخل بسند ضعيف عن والبيهقي رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما ، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة ، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم . ابن عباس