هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم، وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: واذكر لكفار مكة أخا عاد هودا عليه السلام إذ أنذر قومه بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم بالأحقاف جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن قاله ، وقال ابن زيد رضي الله تعالى عنهما بين ابن عباس عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال : مساكنهم من ابن إسحاق عمان إلى حضرموت وقال : الصحيح أن بلاد ابن عطية عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إرم وبيان الحق فيها.
وقد خلت النذر أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر. وجوز كون ( النذر ) جمع نذير بمعنى الإنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه من بين يديه أي من قبله عليه السلام ومن خلفه أي من بعده وقرئ به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى ابن عباس من خلفه من بعد إنذاره، وعطف من خلفه أي من بعده على ما قبله إما من باب علفتها تبنا وماء باردا وفيه أقوال، فقيل: عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه وقيل إنه مشاكلة، وقيل: إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لادخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن [ ص: 25 ] يقال: المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين، والجملة إما حال من فاعل ( أنذر ) أي إذ أنذر معلما إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل، وهي حال أيضا على تفسير ، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله، وإما اعتراض بين المفسر أعني ابن عباس أنذر قومه وبين المفسر أعني قوله تعالى: ألا تعبدوا إلا الله فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيها على أنه إنذار ثابت قديما وحديثا اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى: واذكر ويؤكد قوله سبحانه: أنذر قومه ولذلك توسط، وهو أيضا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالا فإنه حينئذ قيد تابع، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف، وجوز بعضهم العطف على ( أنذر ) أي وأعلمهم بذلك وهو كما ترى، وجعلت (أن) مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله.
إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم صفة ( يوم ) وعظمه مجاز عن كونه مهولا لأنه لازم له، وكون اليوم مهولا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم