فمنكم من يبخل أي ناس يبخلون ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه فلا يتعدى ضرر بخله إلى غيرها يقال: بخلت عليه وبخلت عنه لأن البخل فيه معنى المنع ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف والإضرار فناسب أن يعدى بعن للأول وبعلى للثاني، وظاهر أن من منع المعروف عن نفسه فإضراره عليها فلا فرق بين اللفظين في الحاصل، وقال الطيبي: يمكن أن يقال يبخل عن نفسه على معنى يصدر البخل عن نفسه لأنها مكان البخل ومنبعه كقوله تعالى: ومن يوق شح نفسه وهو كما ترى والله الغني لا غيره عز وجل وأنتم الفقراء الكاملون في الفقر فما يأمركم به سبحانه فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع التي لا تقتضي الحكمة إيصالها بدون ذلك فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم، وقوله تعالى وإن تتولوا عطف على قوله سبحانه: ( إن تؤمنوا ) أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما غيركم يخلق مكانكم قوما آخرين وهو كقوله تعالى: ( يأت بخلق جديد ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.
وثم للتراخي حقيقة أو لبعد المرتبة عما قبل، والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس،
فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم في الأوسط. والطبراني في الدلائل والبيهقي وهو حديث صحيح على شرط والترمذي عن مسلم قال: أبي هريرة وإن تتولوا إلخ فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على منكب ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من سلمان فارس) . (تلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه الآية
وجاء في رواية عن ابن مردويه الدين بدل الإيمان، وقيل: هم جابر الأنصار، وقيل: أهل اليمن، وقيل: كندة والنخع، وقيل: العجم، وقيل: الروم، وقيل: الملائكة، وحمل القوم عليهم بعيد في الاستعمال، وحيث صح الحديث فهو مذهبي.
والخطاب لقريش أو لأهل المدينة قولان والظاهر أنه للمخاطبين قبل والشرطية غير واقعة، فعن شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم والله تعالى أعلم. ومما قاله بعض أرباب الإشارة في بعض الآيات: الكلبي يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم نصرة الله تعالى من العبد على وجهين صورة ومعنى، أما نصرته تعالى في الصورة فنصرة دينه جل شأنه بإيضاح الدليل وتبيينه وشرح فرائضه وسننه وإظهار معانيه وأسراره وحقائقه ثم بالجهاد عليه وإعلاء كلمته وقمع أعدائه وأما نصرته في المعنى فبإفناء الناسوت [ ص: 83 ] في اللاهوت، ونصرة الله سبحانه للعبد على وجهين أيضا صورة ومعنى، أما نصرته تعالى للعبد في الصورة فبإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات والآيات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم، ثم بالأمر بالجهاد الأصغر والأكبر وتوفيق السعي فيهما طلبا لرضاه عز وجل، وأما نصرته تعالى له في المعنى فبإفناء وجوده في وجوده سبحانه بتجلي صفات جماله وجلاله مثل الجنة التي وعد المتقون يشير إلى جنة قلوب أرباب الحقائق الذين اتقوا عما سواه جل وعلا فيها أنهار من ماء غير آسن هو ماء الحياة الروحانية لم يتغير بطول المكث وأنهار من لبن وهو العلم الحقاني الذي هو غذاء الأرواح أو لبن الفطرة التي فطر الناس عليها لم يتغير طعمه بحموضة الشكوك والأوهام أو الأهواء والبدع وأنهار من خمر لذة للشاربين وهي خمر الشوق والمحبة:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها خبير أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى
ونور ولا نار وروح ولا جسم
وأنهار من عسل وهو عسل الوصال مصفى عن كدر الملال وخوف الزوال ولهم فيها من كل الثمرات اللذائذ الروحانية ومغفرة من ربهم ستر لذنب وجودهم كما قيل:
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب كمن هو خالد في النار نار الجفاء وسقوا ماء حميما وهو ماء الخذلان فقطع أمعاءهم من الحرمان ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم وهي ظلمة في وجوههم تدرك بالنظر الإلهي قيل: المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف بنور التحقيق والنبي عليه الصلاة والسلام ينظر بالله عز وجل، وقيل: كل من رزق قرب النوافل ينظر به تعالى لحديث الحديث. (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به)
وحينئذ يبصر كل شيء، ومن هنا كان بعض الأولياء الكاملين يرى على ما حكي عنه أعمال العباد حين يعرج بها وسبحان السميع البصير اللطيف الخبير.