والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال [ ص: 211 ] تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه، لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية، وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا، إذا أوصاه، ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه، والمراد بالعهد ها هنا إما العهد المأخوذ بالعقل، وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته، وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم، لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق، وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها، والناقضون على هذا جميع الكفار، وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه، واتبعوه، ولم يكتموا أمره، وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه، والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم، حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم، وبدلوا تبديلا، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض، ولكل وجهة، وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض، عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم إلى غير ذلك من الأقوال، وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول، والظاهر العموم، (ومن) للابتداء، وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء، وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد، فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه، وقيل: صلة، وهو بعيد، والميثاق مفعال، وهو في الصفات كثير كمنحار، ويكون مصدرا عند أبي البقاء، ، كميعاد، بمعنى الوعد، وأنكره جماعة، وقالوا هو اسم في موضع المصدر، كما في قوله: والزمخشري
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
ويكون اسم آلة كمحراث، ولم يشع هذا ، وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد، لأنه المحدث عنه، ويجوز عوده إلى الله تعالى، ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد، فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان، فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول، وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك، لأنه مصدر، أو مؤول بمشتق، فيكون كقولك: أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل (ما) المقطوعة موصولة أو نكرة موصوفة عند وفي المراد بها أقوال، الأول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قطعوه بالتكذيب والعصيان، قاله أبي البقاء، ، وفيه استعمال (ما) لمن يعقل، بل سيد العقلاء بل العقل، الثاني القول فإنه تعالى أمر أن يوصل بالعمل، فلم يصلوه، ولم يعملوا، وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين، الثالث التصديق بالأنبياء، أمروا بوصله، فقطعوه، بتكذيب بعض وتصديق بعض، الرابع الرحم والقرابة قاله الحسن ، وظاهره أنه أراد كفار قتادة قريش وأشباههم، الخامس الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه، لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله [ ص: 212 ] من العموم، ولا دليل واضح على الخصوص، ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده، وحق خلقه بتقطيع أرحامهم، وليس بالقوي ، والأمر القول الطالب للفعل، مع علو عند المعتزلة ، أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون فماذا تأمرون ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي، وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر، فكأنه مأمور به، أو لأنه من شأنه أن يؤمر به، كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا، وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد، وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد، وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل، لأنه يطلق عليه مثل وما أمر فرعون برشيد (وأن يوصل) يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من (ما) أو من ضميره، والثاني أولى للقرب، ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو، أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله، أي لأن أو كراهية أن ليس بشيء كما لا يخفى، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر، والترغيب فيه ، وحمل الناس عليه، أو بإخافتهم السبل، وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها، ولعل هذا أولى، وذكر في الأرض إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم، (وأولئك) إشارة إلى الفاسقين باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم، وحصر الخاسرين عليهم باعتبار كمالهم في الخسران، حيث أهملوا العقل عن النظر، ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية، والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطيعة بالصلة، والثواب بالعقاب، فضاع منهم الطلبتان، رأس المال والربح، وحصل لهم الضرر الجسيم، وهذا هو الخسران العظيم، وفي الآية ترشيح للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة، فافهم.