إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم
لكن للفرق مقام، وللجمع مقام، ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء وعلم ما انطوت عليه، وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية، ولم يبق من أسرارها باقية، فيالله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير، واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم، كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم، لا تخلف، فقيل : بأن خلق فيه عليه السلام بموجب استعداده علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء، وبمدلولاتها، وبدلالتها، ووجه دلالتها، وقيل : بأن خلقه من أجزاء مختلفة، وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء، وأسمائها، وخواصها، ومعارفها، وأصول العلم، وقوانين الصناعات، وتفاصيل آلاتها، وكيفيات استعمالاتها، فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام، والقول : بأن التعليم على ظاهره، وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب بــ(أنبؤوني)، مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول : للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل : غير ذلك، ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم، واحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداء، ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه، والمعتزلة يقولون : الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح، وقيل : وضع الله تعالى بعضها، ووضع الباقي البشر، وهو مذهب التوزيع، وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها، وما لها، وما عليها في أصول الفقه، وقرأ اليماني (وعلم) مبنيا للمفعول، وفي البحر أن التضعيف للتعدية، وهي به سماعية، وقيل : قياسية، والحريري في شرح لمحته يزعم أن علم المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك، ثم عرضهم على الملائكة أي المسميات المفهومة من الكلام، وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر، وقيل : الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام، ومن قال : الاسم عين المسمى قال : الأسماء هي المسميات [ ص: 225 ] والضمير لها بلا تكلف، وإليه ذهب مكي، والمهدوي، ويرد عليه أن أنبئوني بأسماء هؤلاء يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات لا عن نفسها، وإلا لقيل : أنبئوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسؤول عنه، فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم ومعادهم إجمالا أيضا، وإلا فالتفضيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال : سأوجد كذا وكذا، فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم : عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم؟ وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني، وهذا غير ممتنع على الله تعالى، بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت، بحيث يراها من يراها، وما أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل : إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها.وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء تعجيز لهم، وليس من التكليف بما لا يطاق على ما وهم، وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها ! هيهات ذلك أبعد من العيوق، وأعز من بيض الأنوق، وعندي أن المراد إظهار عجزهم، وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن، بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية وما لي مركب والكف صفر والطريق مخوف
وقرأ (أنبئوني) بغير همز، الأعمش إن كنتم صادقين أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه، وأفضل، وهذا هو التفسير المأثور، فقد أخرج ، عن ابن جرير رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا : لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن ونحن نسبح إلخ، يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى، وتقديسه أو تقديسهم أنفسهم يدل على كمال العلم أيضا، وقيل : إن المعنى: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف، أو في أن استخلافهم لا يليق، فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة، وليس هذا من المعصية في شيء، لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها، وليس باختياري، ولا يرد [ ص: 226 ] أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر، وهم استخبروا، ولم يخبروا لأنا نقول : هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول، ومن حيث منطوقها، وجواب (إن) في مثل هذا الموضع محذوف عند ابن عباس ، وجهمور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا (أنبئوني)، وعند الكوفيين، سيبويه وأبي زيد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن (إن) هنا بمعنى إذا الظرفية، فلا تحتاج إلى جواب، فقد وهم، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها، ولم يجد لها محملا مع إبقاء (إن) على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله، ولم يحوجنا إلى هذا، وإلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذ: أخبروني، ولا تقولوا إلا حقا كما قال الإمام. والمبرد