وهو محسن أي: آت بالحسنات، تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن الإحسان؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: وقيل: الأظهر أن يقال: المراد (وهو محسن) في عقيدته، وهو مراد من قال: أي: وهو موحد، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال، والجملة في موضع الحال من فاعل (أسلم). «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
واتبع ملة إبراهيم الموافقة لدين الإسلام، المتفق على صحتها، وهذا عطف على (أسلم) وقوله سبحانه: حنيفا أي: مائلا عن الأديان الزائغة، حال من (إبراهيم)، وجوز أن يكون حالا من فاعل (اتبع).
واتخذ الله إبراهيم خليلا تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته - عليه السلام - والإيذان بأنه نهاية في الحسن، وإظهار اسمه - عليه السلام - تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على و(من أحسن) إلخ، سواء كان استطرادا أو اعتراضا، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان، ولا على صلة (من) لعدم صلوحه لها، وعدم صحة عطفه على وهو محسن أظهر من أن يخفى، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر، والعطف على حنيفا لا يصح إلا بتكلف، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء، وهي إما من الخلال بكسر الخاء؛ فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة، كما قال:
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا فإذا ما نطقت كنت حديثي
وإذا ما سكت كنت الغليلا
ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه، فقيل له ذلك، فقال: تعلمت الكرم من ربي، رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا، فأوحى الله تعالى إليه: أنت خليلي حقا.
وأخرج في (الشعب) عن البيهقي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابن عمر «يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد» وقيل - واختاره البلخي - لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى، وانقطاعه إليه، وعدم الالتفات إلى من سواه، كما يدل على ذلك قوله والفراء لجبريل - عليه السلام - حين قال له يوم ألقي في النار: ألك حاجة؟ «أما إليك فلا» ثم قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وقيل في وجه تسميته - عليه السلام - خليل الله غير ذلك، والمشهور أن الخليل دون الحبيب.
وأيد بما أخرجه الترمذي، عن وابن مردويه، - رضي الله تعالى عنهما - قال: ابن عباس فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما، وقال آخر فعيسى روح الله تعالى وكلمته، وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى، فخرج عليهم فسلم، فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله تعالى فيدخلها معي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فحر». «جلس ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا،
وأخرج في (نوادر الأصول) الترمذي في (الشعب) وضعفه، والبيهقي وابن عساكر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والديلمي «اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا، وموسى نجيا، واتخذني حبيبا، ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجي»، والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة، وأن المحبة أوسع دائرة، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل، عليه السلام، وهي المرتبة الثابتة له صلى الله عليه وسلم، وأنه قد حصل لنبينا - عليه الصلاة والسلام - من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم - عليه السلام - وفي الفرع مافي الأصل وزيادة، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا - صلى الله عليه وسلم - منه في إبراهيم - عليه السلام - فقد صح أن خلقه القرآن، وجاء عنه [ ص: 156 ] صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: وشهد الله تعالى له بقوله: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وإنك لعلى خلق عظيم ومنشأ إكرام الضيف الرحمة، وعرشها المحيط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يؤذن بذلك قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام.
وقد روى وصححه عن الحاكم جندب: إبراهيم خليلا» والتشبيه على حد أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يتوفى: «إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم في رأي، وقيل: إن (يتوفى) لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى.
وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه إلا أنه صار بعد علما على الشهاب، إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بالخليل حقيقة، على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها، أو نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره - عليه الصلاة والسلام - مع أن مقام الخلة بالمعنى المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى إما لأن ثبوت ذلك المقام له - عليه الصلاة والسلام -على وجه لم يثبت لغيره - كما قيل - وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟! وأجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف البنوة فإنها تقتضيها قطعا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.