وقوله سبحانه: يؤمنون بما أنزل إليك من القرآن وما أنزل من قبلك من الكتب على الأنبياء والرسل حال من (المؤمنون) مبينة لكيفية إيمانهم، وقيل: اعتراض مؤكد لما قبله، وقوله تعالى: والمقيمين الصلاة قال وسائر البصريين : نصب على المدح، وطعن فيه سيبويه بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام، وهنا ليس كذلك؛ لأن الخبر سيأتي، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره. الكسائي
وحكى عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف؛ لأن القطع لا يكون في العطف، وإنما يكون في النعوت، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده ابن عطية للقطع مع حرف العطف من قوله: سيبويه
ويأوي إلى نسوة عطل وشعث مراضيع مثل السعالي
وقال : هو مجرور بالعطف على (ما أنزل إليك) على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الكسائي
[ ص: 15 ] قيل: وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها، بل إظهارها بين الناس وتشريعها؛ ليكون وصفا خاصا، وقيل: المراد بالمقيمين الملائكة؛ لقوله تعالى: يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقيل: المسلمون، بتقدير مضاف أي: وبدين المقيمين، وقال قوم: إنه معطوف على ضمير (منهم)، وقيل ضمير (إليك)، وقيل: ضمير (قبلك).
والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وقد تقدم الكلام في ذلك، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام (لكن) المثقلة وضع موضعها (لكن) المخففة، ولا يخفى ما فيه، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن، وأن الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبد الله ، وهي قراءة ، مالك بن دينار والجحدري ، ، إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا. وعيسى الثقفي
وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتي به إلى - رضي الله تعالى عنه - فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من عثمان هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا، فقد قال : إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع؛ فإن السخاوي - رضي الله تعالى عنه - جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟! وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟! عثمان
وتأول قوم اللحن في كلامه - على تقدير صحته عنه - بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
منطق رائع وتلحن أحيا نا وخير الكلام ما كان لحنا
أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا، فتذكر.
ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه، وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي، والعطف على ضمير (يؤمنون) ليس بشيء، وكذا الحال في قوله تعالى: والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر فإن المراد بالكل مؤمنوا أهل الكتاب، وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب، لا يعترضهم شك، ولا تزلزلهم شبهة؛ إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان، وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام، واكتفي من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية.
ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق - جل جلاله - وانقطاعا عن السوى وتوجها إلى المولى كسي المقيمين حلة النصب؛ ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية، فيا ما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب.
ثم وصفهم بكونهم بالمبدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه، وإحاطتهم به من طرفيه، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة؛ لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما أولئك إشارة إلى الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن، المحكمة البنيان، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: سنؤتيهم أجرا عظيما خبره، والجملة خبر المبتدأ الذي هو [ ص: 16 ] الراسخون، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا، وتنكير الأجر للتفحيم كما مر غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك، حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم.
وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة (يؤمنون) وحمل المؤمنين على أصحاب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ممن عدا أهل الكتاب، والمناسبة عليه غير تامة.
وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب) الآية، كأنه قيل: لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء؛ لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرءوا من الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ووجوب اتباعك عليهم، فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى؛ إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك.
وروي هذا عن ، وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. قتادة
وقرأ (سيؤتيهم) بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى: (المؤمنون بالله). حمزة