وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته - صلى الله تعالى عليه وسلم - وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى، بل هو إبطال وتعطيل له؛ إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها؛ لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها، كما قرر شيخ الإسلام - قدس سره - واختار كونه أمرا [ ص: 151 ] مبتدأ ، وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على ( آتيناه ) أي: وقلنا: ( ليحكم أهل الإنجيل ) وحذف القول لدلالة ما قبله عليه كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: الجبائي والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم واختار ذلك علي بن عيسى .
وقرأ ( وليحكم ) بلام الجر، ونصب الفعل بـ( أن ) مضمرة، والمصدر معطوف على ( هدى وموعظة ) على تقدير كونهما معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في ( هدى وموعظة ) أي: وآتيناه ليحكم إلخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة، وهو ضعيف، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا بـ( أنزل ) ليصح كونه علة لإيتاء حمزة عيسى - عليه الصلاة والسلام – ما ذكر.
وعن أبي علي أنه قرأ ( وأن ليحكم ) على أن ( أن ) موصولة بالأمر كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن ( أن ) تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل ( أن ) المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف، وذكر فيه نقلا عن ، وقدر هنا أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على ( أن ) المصدرية والتفسيرية. سيبويه
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون أي: المتمردون الخارجون عن حكمه، أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة، ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى - عليه السلام - كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضا حديث : « البخاري » وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي الملل والنحل للشهرستاني: جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها، وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به موسى - عليه السلام - مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح - عليه السلام – لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ، وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة، ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى - عليه الصلاة والسلام - وحمل المخالف هذه الآية على ( وليحكموا بما أنزل الله ) تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر، كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا، صلى الله تعالى عليه وسلم.