وأخرج وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى : ابن جرير ذرني ومن خلقت وحيدا و ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ، وقيل : المراد الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم. والآية عليه منسوخة بآية السيف وهو مروي عن قتادة. ونصب لعبا على أنه مفعول ثان لـ (اتخذوا) وهو اختيار السفاقسي، ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول و (دينهم) ثان، وفيه إخبار عن النكرة بالمعرفة. ويفهم من كلام الإمام أنه مفعول لأجله (واتخذ) متعد لواحد فإنه قال بعد سرد وجوه التفسير في الآية : والخامس وهو الأقرب أن المحق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا؛ وقد حكم الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله سبحانه : وذر الذين اتخذوا إلخ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية، اهـ
ولا يخفى أنه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائله وغرتهم الحياة الدنيا أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزأوا بآيات الله تعالى. وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة. وعليه قوله : ولما التقينا بالعشية غرني بمعروفه حتى خرجت أفوق وذكر به أي بالقرآن. وقد جاء مصرحا به في قوله سبحانه : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد والقرآن يفسر بعضه بعضا، وقيل : الضمير لحسابهم، وقيل : إنه ضمير يفسره قوله سبحانه : أن تبسل نفس بما كسبت فيكون بدلا منه واختاره أبو حيان. وعلى الأوجه الأخر هو مفعول لأجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة أن تبسل. ومنهم من جعله مفعولا به لـ (ذكر) ومعنى تبسل تحبس كما روي عن رضي الله تعالى عنهما. وأنشد قول ابن عباس زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع وقلبي مبسل علقا
وفي رواية عنه تسلم. وروي ذلك أيضا عن ابن أبي حاتم الحسن ومجاهد واختاره والسدي الجبائي وفي رواية والفراء، وغيره تفضح، وقال ابن جرير : الراغب تبسل هنا بمعنى تحرم الثواب.وذكر غير واحد [ ص: 187 ] أن الإبسال والبسل في الأصل المنع، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه، وجاء البسل بمعنى الحرام. وفرق بينهما بأن الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر؛ والبسل الممنوع بالقهر ويكون بسل بمعنى أجل ونعم، واسم فعل بمعنى اكفف، وتنكير نفس للعموم مثله في قوله تعالى : الراغب علمت نفس ما أحضرت أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب عملها السوء أو (ذكر) بحبس أو حبس كل نفس بذلك، وحمل النكرة على العموم مع أنها في الإثبات لاقتضاء السياق له، وقيل : أنها هنا في النفي معنى، وفيما اختاره من التفخيم وزيادة التقرير ما لا يخفى أبو حيان، وقوله تعالى : ليس لها أي النفس من دون الله ولي ولا شفيع إما استئناف للإخبار بذلك أو في محل رفع صفة (نفس) أو في محل نصب على الحالية من ضمير (كسبت) أو من (نفس) فإنه في قوة نفس كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية. و (من دون الله) متعلق بمحذوف وقع حالا من (ولي) ، وقيل : خبرا لـ (ليس) و (لها) حينئذ متعلق بمحذوف على البيان و (من) جعلها زائدة لم يعلقها بشيء، والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع، وإن تعدل أي إن تفد تلك النفس كل عدل أي كل فداء و (كل) نصب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به، وقيل : أنه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك : هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية، والتقدير عدلا كل عدل، ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم التبعية والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيدا كما في التسهيل، ولا يجوز حذف موصوفه
، وقوله تعالى : لا يؤخذ منها جواب الشرط، والفعل مسند إلى الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافه في قوله تعالى : ولا يؤخذ منها عدل فإنه فيه بمعنى المفدى به، وجوز كون الإسناد إلى ضميره مرادا به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور وبذلك يستغني أيضا عن القول بكونه راجعا إلى المعدول به المأخوذ من السياق
وقيل : معنى الآية وإن تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا أولئك أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا الذين أبسلوا أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو بأحد المعاني الباقية للإبسال بما كسبوا أي بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. واسم الإشارة مبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجة المشار إليهم في سوء الحال، وخبره الموصول بعده، والجملة استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك
وقوله سبحانه : لهم شراب من حميم استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : ماذا لهم حين أبسلوا؟ فقيل : لهم شراب من حميم أي ماء حار يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم بنار تشتعل بأبدانهم كما هو المتبادر من العذاب بما كانوا يكفرون
70
- أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا، ويطلق الحميم على الماء البارد فهو ضد كما في القاموس. وجوز أن تكون جملة أبو البقاء لهم شراب حالا من ضمير أبسلوا وأن تكون خبرا لاسم [ ص: 188 ] الإشارة ويكون الذين نعتا له أو بدلا منه وأن تكون خبرا ثانيا. واختار كما يشير كلامه أن تكون الإشارة إلى النفوس المدلول عليها بنفس، وجعلت الجملة لبيان تبعة الإبسال. واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه
وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله سبحانه: بما كسبوا لأنه العمدة في أسباب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد -كما قيل- : بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي