والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
"والمحصنات" عطف على المحرمات قبل. والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها. والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء. وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل: فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ. ويستعملون الإحصان في الحرية، لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنى، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه الصلاة والسلام، حين بايعته: "وهل تزني الحرة؟" فالحرية منعة وحفظ. ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: "الإيمان قيد الفتك".
ومنه قول الهذلي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
ومنه قول الشاعر:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام
[ ص: 512 ] ومنه قول سحيم:
. . . .. . . . .. . . ... . . .. .. . كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ومنه قول أبي حية:
رمتني وستر الله بيني وبينها
فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام.
ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها فهي منعة وحفظ.
وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية: "والمحصنات"، قال ابن عباس، وأبو قلابة، وابن زيد، ومكحول، والزهري، هن ذوات الأزواج، أي: هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسباء من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج وأبو سعيد الخدري:
وروى "أن الآية نزلت بسبب أبو سعيد الخدري أوطاس، فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة". أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى [ ص: 513 ]
وقال عبد الله بن مسعود، وسعيد بن المسيب، والحسن بن أبي الحسن، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، أيضا: معنى المحصنات: ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها. وقال وابن عباس إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها. ومذهب ابن مسعود: مالك وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق. والشافعي
وقال قوم: المحصنات -في هذه الآية- العفائف، أي: كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك.
إلا ما ملكت أيمانكم قالوا: معناه: بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين. قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني، وطاوس، وسعيد بن جبير، ورواه وعطاء، عن عبيدة رضي الله عنه. عمر
[ ص: 514 ] وقال المحصنات: العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب. ابن عباس:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى.
وأسند عن الطبري أنه قال في تأويل قوله تعالى: "والمحصنات": هن الحرائر، ويكون عروة إلا ما ملكت أيمانكم معناه: بنكاح. هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا.
وروي عن أنه قال: كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن، فمنعناهن بقوله تعالى: "والمحصنات"... الآية. أبي سعيد الخدري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال.
وأسند أن رجلا قال الطبري أما رأيت لسعيد بن جبير: حين سئل عن هذه الآية ابن عباس والمحصنات من النساء فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان لا يعلمها، وأسند أيضا عن ابن عباس أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل. قوله: "والمحصنات" إلى قوله: "حكيما". مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ولا كيف انتهى ابن عباس؟ إلى هذا القول؟. مجاهد
وروي عن أنه سئل عن هذه الآية ابن شهاب والمحصنات من النساء فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات. ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك. وهذا قول حسن، عمم لفظ الإحصان، ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول في الموطإ، فإنه قال: [ ص: 515 ] هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنى، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة. مالك
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، "والمحصنات" بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ وحمزة: كذلك في هذا الموضع وحده. وقرأ سائر ما في القرآن: "المحصنات" بكسر الصاد، "ومحصنات" كذلك. وروي عن الكسائي أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى: أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية. وكسر الصاد هو على معنى: أنهن أحصن أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها. علقمة
وقرأ يزيد بن قطيب: "والمحصنات" بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة.
وقرأ جمهور الناس "كتاب الله" وذلك نصب على المصدر المؤكد.
وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع اليماني "كتب الله عليكم" على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى.
وقال وغيره: قوله: "كتاب الله عليكم" إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: "مثنى وثلاث ورباع" وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله: "كتاب الله عليكم" [ ص: 516 ] إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت عبيدة السلماني العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، فقال المعنى: وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح، وقال نحوه السدي: وقال عبيدة السلماني. وغيره: المعنى: وأحل لكم ما وراء من حرم من سائر القرابة فهن حلال لكم تزويجهن. وقال عطاء وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. قتادة:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، "وأحل لكم" بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله: "كتاب الله"، إذ المعنى: كتب الله ذلك كتابا، وقرأ وابن عامر: حمزة "وأحل" بضم الهمزة وكسر الحاء، وهذه مناسبة لقوله: والكسائي: حرمت عليكم .
والوراء في هذه الآية: ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات. فهن وراء أولئك بهذا الوجه، و أن تبتغوا بأموالكم لفظ يجمع التزوج والشراء، و"أن" في موضع نصب، وعلى قراءة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء. حمزة
و"محصنين" معناه: متعففين، أي: تحصنون أنفسكم بذلك "غير مسافحين"، أي: غير زناة، والسفاح: الزنى، وهو مأخوذ من: سفح الماء أي: صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في [ ص: 571 ] عرس: "هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر".
واختلف المفسرون في معنى قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، فقال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغيرهم: المعنى: فإذا استمتعتم بالزوجة، ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله،ولفظة "فما" تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر. وابن زيد،
وروي عن أيضا، ابن عباس ومجاهد، وغيرهم: أن الآية في نكاح المتعة، وقرأ والسدي، ابن عباس، وأبي بن كعب، "فما استمتعتم به منهن -إلى أجل مسمى- فآتوهن أجورهن"، وقال وسعيد بن جبير: ابن عباس لأبي نضرة: "هكذا أنزلها الله عز وجل".
وروى أن الحكم بن عتيبة رضي الله عنه قال: "لولا أن عليا نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي". عمر
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقيل: قول الله تعالى: ابن المسيب: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . وقالت رضي الله عنها: نسخها قوله: عائشة والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم . ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق والعدة، والميراث. وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين [ ص: 518 ] وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى ألا ميراث بينهما. ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة. وحكى المهدوي عن أن ابن المسيب كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف. "فريضة" نصب على المصدر في موضع الحال. نكاح المتعة
واختلف المفسرون في معنى قوله: ولا جناح عليكم الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض. وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة، وزيادة في الأجر جائز سائغ.
وباقي الآية بين.