[ ص: 104 ]
6 - سورة الأنعام
( مكية وهي مائة وخمس وستون آية )
سورة الأنعام
( مكية غير ست آيات أو ثلاث ، من قوله تعالى : قل تعالوا أتل ، وهي مائة وخمس وستون آية )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
الحمد لله تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة أولا باسم الذات ، الذي عليه يدور كافة ما يوجبه من صفات الكمال ، وإليه يؤول جميع نعوت الجلال والجمال ، للإيذان بأنه عز وجل هو المستحق له بذاته ، لما مر من اقتضاء اختصاص الحقيقة به سبحانه ، لاقتصار جميع أفرادها عليه بالطريق البرهاني .
ووصفه تعالى ثانيا بما ينبئ عن تفصيل بعض موجباته المنتظمة في سلك الإجمال من عظائم الآثار ، وجلائل الأفعال من قوله عز وجل : الذي خلق السماوات والأرض للتنبيه على استحقاقه تعالى له ، واستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم ، وآلائه الجسام أيضا ، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية ، وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود ، فكيف بما يتفرع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية ، المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد ; أي : أنشأهما على ما هما عليه من النمط الفائق والطراز الرائق ، منطويتين من أنواع البدائع وأصناف الروائع ، على ما تتحير فيه العقول والأفكار من تعاجيب العبر والآثار ، تبصرة وذكرى لأولي الأبصار ، وجمع السماوات لظهور تعدد طبقاتها واختلاف آثارها وحركاتها ، وتقديمها لشرفها وعلو مكانها ، وتقدمها وجودا على الأرض كما هي .
وجعل الظلمات والنور عطف على " خلق " مترتب عليه ، لكون جعلهما مسبوقا بخلق منشئهما ، ومحلهما داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد ، فكما أن خلق السماوات والأرض وما بينهما لكونه أثرا عظيما ونعمة جليلة ، موجب لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا ، كذلك جعل الظلمات والنور لكونه أمرا خطيرا ونعمة عظيمة ، مقتض لاختصاصه بجاعلهما .
والجعل : هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية ، وهذا عام له كما في الآية الكريمة ، وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ... الآية .
وأيا ما كان فهو إنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر ، بأن يكون فيه ، أو له ، أو منه ، أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف ، لغوا كان أو مستقرا ، لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام ، بل قيدا فيه ، كما في قوله عز وجل : وجعل بينهما برزخا ، وقوله تعالى : وجعل فيها رواسي ، وقوله تعالى : واجعل لنا من لدنك وليا ... الآية [ ص: 105 ]
فإن كل واحد من هذه الظروف إما متعلق بنفس الجعل ، أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله تقدمت عليه لكونه نكرة ، وأيا ما كان فهو قيد في الكلام ، حتى إذا اقتضى الحال وقوعه عمدة فيه ، يكون الجعل متعديا إلى اثنين هو ثانيهما ، كما في قوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم .
وربما يشتبه الأمر فيظن أنه عمدة فيه ، وهو في الحقيقة قيد بأحد الوجهين ، كما سلف في قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة ، حيث قيل : إن الظرف مفعول ثان لجاعل ، وقد أشير هناك إلى الذي يقضي به الذوق السليم ، وتقتضيه جزالة النظم الكريم ، أنه متعلق بجاعل ، أو بمحذوف وقع حالا من المفعول ، وأن المفعول الثاني هو خليفة ، وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله .
وجمع " الظلمات " لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، ومشاهدتهم لها على التفصيل ، وتقديمها على " النور " لتقدم الإعدام على الملكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين .
وقوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه ، كما حقق في تفسير الفاتحة الكريمة ، مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول ، والمعنى : أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شئونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه ; أي : يسوون به غيره في العبادة ، التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقا له ، غير متصف بشيء من مبادئ الحمد .
وكلمة " ثم " لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه ، لا بعد بيانه بالآيات التنزيلية ، والموصول عبارة عن طائفة الكفار ، جار مجرى الاسم لهم من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن يؤمن به كلا أو بعضا عنوانا للموضوع ، فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم من الإشراك .
والباء متعلقة بيعدلون ، ووضع الرب موضع ضميره تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح ، والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل ، وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلة اللازم ، إيذانا بأنه المدار في الاستبعاد والاستنكار ، لا خصوصية المفعول ، هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل والخليق بفخامة شأنه الجليل .
وأما جعل الباء صلة لكفروا على أن يعدلون من العدول ، والمعنى : أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، فيرده أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشد شناعة ، وأعظم جناية من عدولهم عن حمده عز وجل ، لتحققه مع إغفاله أيضا ، فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصود الإفادة ، وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ عنه ، مما لا عهد له في الكلام السديد ، فكيف بالنظم التنزيلي هذا .
وقد قيل : إنه معطوف على " خلق السماوات " ، والمعنى : أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدر على شيء منه ، لكن لا على قصد أنه صلة مستقلة ، ليكون بمنزلة أن يقال : الحمد لله الذي عدلوا به ، بل على أنه داخل تحت الصلة ، بحيث يكون الكل صلة واحدة ، كأنه قيل : الحمد لله الذي كان منه تلك النعم العظام ، ثم من الكفرة الكفر .
وأنت خبير بأن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده عز [ ص: 106 ] وجل حقه أن يكون له دخل في ذلك الإنباء ولو في الجملة ، ولا ريب في أن كفرهم بمعزل منه وادعاء أن له دخلا فيه ; لدلالته على كمال الجود ، كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده ، تعسف لا يساعده النظام ، وتعكيس يأباه المقام ، كيف لا ومساق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات الآتية تشنيع الكفرة وتوبيخهم ، ببيان غاية إساءتهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم ، لا بيان نهاية إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى ، كما يقتضيه الادعاء المذكور .
وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه ، لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة ، فما ظنك بما هو من روادفها ، وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام ، فتأمل وكن على الحق المبين .