[ ص: 3765 ] (75) سورة القيامة مكية
وآياتها أربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2) أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4) بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة (6) فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9)
يقول الإنسان يومئذ أين المفر (10) كلا لا وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر (13) بل الإنسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15) لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الآخرة (21) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25) كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى (35) أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من [ ص: 3766 ] مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى (40)
هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد، والإيقاعات واللمسات، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه.. تحشدها بقوة، في أسلوب خاص، يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا، سواء في أسلوب الأداء التعبيري، أو أسلوب الأداء الموسيقي، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا!
إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة، وإيقاع عن النفس: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة .. ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة، من المطلع إلى الختام، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي. وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة، بطريقة دقيقة جميلة..
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه.. حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي، فلا يملك لها ردا، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا. وهي تتكرر في كل لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعاف، ويقف الجميع منها موقفا واحدا.. لا حيلة. ولا وسيلة. ولا قوة. ولا شفاعة. ولا دفع. ولا تأجيل.. مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا. ولا مفر من الاستسلام لها، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا.. وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول: كلا! إذا بلغت التراقي، وقيل: من راق؟ وظن أنه الفراق. والتفت الساق بالساق.. إلى ربك يومئذ المساق ..
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا.. وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره; كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ ثم تقول في آخرها: أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ألم يك نطفة من مني. يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين: الذكر والأنثى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ..
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية.. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب، واستهانة بها ولجاج في الفجور. فيجيء الرد في إيقاعات سريعة، ومشاهد سريعة، وومضات سريعة: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه. يسأل: [ ص: 3767 ] أيان يوم القيامة؟ فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ كلا! لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر. بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره! ..
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول. ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله، وبالرجاء فيه، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب. وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن. وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة، وإهمالهم للآخرة. وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون: كلا! بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة. وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة. ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة! ..
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن. ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها. إذ كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه; وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه. فجاءه هذا التعليم: لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه .. جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي، وحفظ هذا القرآن، وجمعه، وبيان مقاصده.. كل أولئك موكول إلى صاحبه. ودوره هو، هو التلقي والبلاغ. فليطمئن بالا، وليتلق الوحي كاملا، فيجده في صدره منقوشا ثابتا.. وهكذا كان.. فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل.. أليس من قول الله؟ وقول الله ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب.. ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي اتجاه.. وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخرم منها حرف، ولم تند منها عبارة. فهو الحق والصدق والتحرج والوقار!
وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - أنه محاصر لا يهرب. مأخوذ بعمله لا يفلت. لا ملجأ له من الله ولا عاصم. مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر: فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى. ثم ذهب إلى أهله يتمطى ..
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف: أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى فيكون له وقعه ومعناه!
وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه. وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن، شأن القيامة، وشأن النفس، وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق. ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف، لأنه من كلام العظيم الجليل، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته، وتثبت في سجل الكون الثابت، وفي صلب هذا الكتاب الكريم.
وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان. وهي في نسق السورة شيء آخر. إذ إن تتابعها في السياق، والمزاوجة بينها هنا وهناك، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة، ثم العودة إليه بالجانب [ ص: 3768 ] الآخر بعد فترة.. كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري; مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر، ولا طريقة أخرى..
فلنأخذ في مواجهة السورة كما هي في سياقها القرآني الخاص:
لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، يسأل: أيان يوم القيامة؟ فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر.. يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر، بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره ..
هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر; وهذا الوقع هو المقصود من العبارة، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن.. ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة.
وحقيقة القيامة سيرد عنها الكثير في مواضعه في السورة. فأما النفس اللوامة ففي التفسيرات المأثورة أقوال متنوعة عنها.. فعن إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه.. وعن الحسن البصري: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.. وعن الحسن: تلوم على الخير والشر: لو فعلت كذا وكذا! كذلك عن عكرمة: وعن سعيد بن جبير.. هي النفس اللؤوم. وعنه أيضا: اللوامة المذمومة. وعن ابن عباس: تندم على ما فات وتلوم عليه.. وعن مجاهد: الفاجرة.. وقال قتادة: وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات. جرير:
ونحن نختار في معنى النفس اللوامة قول "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه".. الحسن البصري:
فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله، حتى ليذكرها مع القيامة. ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة. نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدما في الفجور، والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى دون حساب لنفسه ودون تلوم ولا تحرج ولا مبالاة!
لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة .. على وقوع هذه القيامة، ولكنه لما عدل عن القسم، عدل عن ذكر المقسم به، وجاء به في صورة أخرى كأنها ابتداء لحديث بعد التنبيه إليه بهذا المطلع الموقظ: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه ..
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيا! ولعلها لا تزال كذلك في بعض النفوس إلى يومنا هذا! والقرآن يرد على هذا الحسبان بعدم جمع العظام مؤكدا وقوعه: بلى! قادرين على أن نسوي بنانه .. والبنان أطراف الأصابع والنص يؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان! وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه [ ص: 3769 ] بنان، ولا تختل عن مكانها، بل تسوى تسوية، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو، مهما صغر ودق!
ويكتفي هنا بهذا التقرير المؤكد، وسيجيء في نهاية السورة دليل آخر من واقع النشأة الأولى. إنما يخلص هنا إلى الكشف عن العلة النفسية في هذا الحسبان، وتوقع عدم جمع العظام.. إن هذا الإنسان يريد أن يفجر، ويمضي قدما في الفجور، ولا يريد أن يصده شيء عن فجوره، ولا أن يكون هناك حساب عليه وعقاب. ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث، ويستبعد مجيء يوم القيامة:
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه. يسأل أيان يوم القيامة؟ ..
والسؤال بأيان - هذا اللفظ المديد الجرس - يوحي باستبعاده لهذا اليوم.. وذلك تمشيا مع رغبته في أن يفجر ويمضي في فجوره، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة.. والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومصد للقلب المحب للفجور. فهو يحاول إزالة هذا المصد، وإزاحة هذا اللجام، لينطلق في الشر والفجور بلا حساب ليوم الحساب.
ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها، سريعا خاطفا حاسما، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ. وكان مشهدا من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية، والمشاهد الكونية:
فإذا برق البصر. وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر. يقول الإنسان يومئذ أين المفر؟ .
فالبصر يخطف ويتقلب سريعا سريعا تقلب البرق وخطفه. والقمر يخسف ويطمس نوره. والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق. ويختل نظامهما الفلكي المعهود، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.. وفي وسط هذا الذعر والانقلاب، يتساءل الإنسان المرعوب: أين المفر؟ ويبدو في سؤاله الارتياع والفزع، وكأنما ينظر في كل اتجاه، فإذا هو مسدود دونه، مأخوذ عليه!
ولا ملجأ ولا وقاية، ولا مفر من وأخذه، والرجعة إليه، والمستقر عنده; ولا مستقر غيره: قهر الله
كلا! لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر ..
وما كان يرغب فيه الإنسان من المضي في الفجور بلا حساب ولا جزاء، لن يكون يومئذ، بل سيكون كل ما كسبه محسوبا، وسيذكر به إن كان نسيه، ويؤخذ به بعد أن يذكره ويراه حاضرا:
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ..
بما قدمه من عمل قبل وفاته، وبما أخره وراءه من آثار هذا العمل خيرا كان أم شرا. فمن الأعمال ما يخلف وراءه آثارا تضاف لصاحبها في ختام الحساب!
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه، فلن يقبل منها عذر، لأن نفسه موكولة إليه، وهو موكل بها، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها. فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها:
بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ..
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير: الفقر. والفواصل. والإيقاع الموسيقي. والمشاهد الخاطفة. وكذلك عملية الحساب: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر
هكذا في سرعة وإجمال.. ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب!
[ ص: 3770 ] ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن: لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه ..
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن: وحيا وحفظا وجمعا وبيانا; وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته. ليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمره إلا حمله وتبليغه. ثم لهفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه; وأخذه مأخذ الجد الخالص، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئا لم يفته، ويتثبت من حفظه له فيما بعد!
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص.
ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال; ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها. ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع: النفس اللوامة،
كلا. بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة. وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة ..
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو في هذا الموضع. ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها - وهو الإيحاء المقصود - فإن هناك تناسقا بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق، وقول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - تسمية الدنيا بالعاجلة لا تحرك به لسانك لتعجل به ..
فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا.. وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق!
ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد: