[ ص: 2788 ] وإذ قال لقمان لابنه - وهو يعظه - : يا بني لا تشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم ..
وإنها لعظة غير متهمة; فما يريد الوالد لولده إلا الخير، وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك، ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإن واللام.. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد - صلى الله عليه وسلم - على قومه، فيجادلونه فيها، ويشكون في غرضه من وراء عرضها، ويخشون أن يكن وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس، يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه.. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة:
ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك، إلي المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي. ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ..
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه؛ فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله، وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى، بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر، وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق.. روى في مسنده - بإسناده - عن الحافظ أبوبكر البزار بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل أديت حقها؟ قال: " لا. ولا بزفرة واحدة " . هكذا.. ولا بزفرة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن.
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين، ويرتب الواجبات، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين.. أن اشكر لي ولوالديك .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: إلي المصير حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد - على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة - إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان [ ص: 2789 ] من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن إقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته - وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم! - فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة.
ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: وصاحبهما في الدنيا معروفا فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: واتبع سبيل من أناب إلي من المؤمنين ثم إلي مرجعكم بعد رحلة الأرض المحدودة فأنبئكم بما كنتم تعملون ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت) . وروي أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص سعد بن مالك. ورواه في كتاب العشرة - بإسناده - عن الطبراني داود بن أبي هند. والقصة في صحيح من حديث مسلم وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض. سعد بن أبي وقاص.
وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه، تجيء الفقرة التالية في الوصية، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف:
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، يأت بها الله. إن الله لطيف خبير ..
وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله، وعن قدرة الله سبحانه، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء، العميقة الإيقاع.. حبة من خردل، صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. فتكن في صخرة .. صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. أو في السماوات .. في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. أو في الأرض ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. يأت بها الله .. فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تفلتها. إن الله لطيف خبير .. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف.
ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة، ويتملى علم الله الذي يتابعها. حتى يخشع القلب وينيب، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب. بهذا الأسلوب العجيب.
ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه. فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها [ ص: 2790 ] في الضمير. بعد الإيمان بالله لا شريك له، واليقين بالآخرة لا ريب فيها، والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل.. فأما الخطوة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون:
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك. إن ذلك من عزم الأمور ..
وهذا هو طريق العقيدة المرسوم.. توحيد لله، وشعور برقابته، وتطلع إلى ما عنده، وثقة في عدله، وخشية من عقابه. ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر، بالزاد الأصيل. زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة. ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله، من التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها. ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي. ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء.. إن ذلك من عزم الأمور ..
وعزم الأمور: قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم.
ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله. فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس، والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير. ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل:
ولا تصعر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحا. إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك، واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ..
والصعر: داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها. والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر. حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار!
والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالاة بالناس. وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق. وهي تعبير عن شعور مريض بالذات، يتنفس في مشية الخيلاء! إن الله لا يحب كل مختال فخور ..
ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة: واقصد في مشيك .. والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق.
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيئ الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه; يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق!
والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير .. فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية، مع النفور والبشاعة. ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول.. شيئا من صوت هذه الحمير..!
وهكذا تنتهي الجولة الثانية، بعدما عالجت القضية الأولى، بهذا التنويع في العرض، والتجديد في الأسلوب.