[ ص: 3103 ] (41) وآياتها أربع وخمسون سورة فصلت مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8) قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (13) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون (14) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم [ ص: 3104 ] قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب .الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16) وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (18) ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23) فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25) وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (27) ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28) وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا .من غفور رحيم (32) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا [ ص: 3105 ] الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36)
قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة.. الألوهية الواحدة. والحياة الآخرة. والوحي بالرسالة. يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية.
وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق، واستدلال عليها. وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق، وتحذير من التكذيب بها، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة، وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة. وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده; بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة ... كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسلمون ويستسلمون.
فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين .. و: قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا؟ ذلك رب العالمين .. ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها: ألا تعبدوا إلا الله .. وفي وسطها يرد: لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن .. وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها: ويوم يناديهم أين شركائي؟ قالوا: آذناك ما منا من شهيد ..
وعن قضية الآخرة يرد تهديدا للذين لا يؤمنون بالآخرة: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون .. وتختم بقوله: ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم، ألا إنه بكل شيء محيط .. كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعا. بل إن هذا الطريق أشد توكيدا لهذه القضية وتشخيصا.
وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي. فهي تفتتح به في تفصيل: حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون. وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون. قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي.. ... وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآن: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .. ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيه: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ما يقال لك: إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم. ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا: لولا فصلت آياته؟ أأعجمي وعربي؟ قل: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، وهو عليهم عمى. أولئك ينادون من مكان بعيد ... ..
وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قوله: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا، وقال: إنني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم ..
[ ص: 3106 ] هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة. تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام. وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين. وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين. وأخيرا تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق; وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد.
ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير: قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا؟ ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها. قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها. وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا. ذلك تقدير العزيز العليم .. ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة: ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر. لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون. فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون. ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. إن الذي أحياها لمحيي الموتى، إنه على كل شيء قدير .. أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة، وتعرض على أصحابها عارية من كل ستار: لا يسأم الإنسان من دعاء الخير، وإن مسه الشر فيئوس قنوط، ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن: هذا لي، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى، فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ. وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ..
ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا: من أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون. ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ..
ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء. وهو خلقكم أول مرة، وإليه ترجعون .. ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعين: وقال الذين كفروا: ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس، نجعلهما تحت أقدامنا، ليكونا من الأسفلين! ..
وهكذا تعرض حقائق العقيدة - في السورة - في هذا الحشد من المؤثرات العميقة. ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة، ويصور طابعها، ويرسم ظلالها.. والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض، وفي أغوار النفس، وفي مصارع البشر، وفي عالم القيامة، وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق..
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين، متماسكي الحلقات..
[ ص: 3107 ] الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه. وتليها قصة خلق السماء والأرض. فقصة عاد وثمود. فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس.
يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. ومن آثار هذا قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا. وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة - لا قرناء السوء - يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة. ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية.. وبذلك ينتهي هذا الشوط.
ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة، والأرض الخاشعة، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب. ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه. ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب. وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها. وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات، وما تكنه الأرحام من أنسال. ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها. ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والفاق حتى يتبينوا ويثقوا: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد. ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم. ألا إنه بكل شيء محيط ..