باب قتل المؤمن بالكافر قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى " يقتل المسلم بالذمي " . وقال وعثمان البتي ابن شبرمة والثوري والأوزاعي : " لا يقتل " . وقال والشافعي مالك : " إن قتله غيلة قتل به ، وإلا لم يقتل " . والليث بن سعد
قال : سائر ما قدمنا من ظواهر الآي يوجب قتل المسلم بالذمي على ما بينا ؛ إذ لم يفرق شيء منها بين المسلم ، والذمي ، وقوله تعالى : أبو بكر كتب عليكم القصاص في القتلى عام في الكل ، وكذلك قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقوله في سياق الآية : فمن عفي له من أخيه شيء لا دلالة فيه على خصوص أول الآية في المسلمين دون الكفار ؛ لاحتمال الأخوة من جهة النسب ، ولأن عطف بعض ما انتظمه لفظ العموم عليه بحكم مخصوص لا يدل على تخصيص حكم الجملة على ما بيناه فيما سلف عند ذكرنا حكم الآية .
وكذلك قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس يقتضي عمومه ؛ لأن شريعة من قبلنا من الأنبياء ثابتة في حقنا ما لم ينسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وتصير حينئذ شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 174 ] قال الله تعالى : قتل المؤمن بالكافر أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
ويدل على أن ما في هذه الآية ، وهو قوله : النفس بالنفس إلى آخرها هو شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم في إيجابه القصاص في السن في حديث الذي قدمنا حين قال أنس أنس بن النضر : لا تكسر ثنية الربيع : ، وليس في كتاب الله السن بالسن إلا في هذه الآية ، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن موجب حكم الآية علينا ، ولو لم تلزمنا شريعة من قبلنا من الأنبياء بنفس ورودها لكان قوله كافيا في بيان موجب حكم هذه الآية ، وأنها قد اقتضت من حكمها علينا مثل ما كان على كتاب الله القصاص بني إسرائيل فقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا على معنيين :
أحدهما : لزوم حكم الآية لنا ، وثبوته علينا ، والثاني : إخباره أن ظاهر الكتاب قد ألزمنا هذا الحكم قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فدل ذلك على ما حكاه الله في كتابه مما شرعه لغيره من الأنبياء فحكمه ثابت ما لم ينسخ ، وإذا ثبت ما وصفنا ، وليس في الآية فرق بين المسلم ، والكافر ، وجب إجراء حكمها عليهما . ويدل عليه قوله عز وجل : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقد ثبت بالاتفاق أن السلطان المذكور في هذا الموضع قد انتظم القود ، وليس فيها تخصيص مسلم من كافر فهو عليهما .
ومن جهة السنة ما روي عن ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير سلمة ، عن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي هريرة مكة فقال : ألا ، ومن قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية . خطب يوم فتح
وروى عن أبو سعيد المقبري أبي شريح الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وحديث عثمان وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : ، وعائشة . وحديث لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير نفس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عباس . وهذه الأخبار يقتضي عمومها العمد قود . وروى قتل المسلم بالذمي ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن السلماني : أن . وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي ، وقال : أنا أحق من وفى بذمته عن الطحاوي سليمان بن شعيب قال : حدثنا يحيى بن سلام ، عن محمد بن أبي حميد المدني ، عن ، عن النبي5 صلى الله عليه وسلم مثله . محمد بن المنكدر
وقد روي عن عمر وعلي وعبد الله قتل المسلم بالذمي ، حدثنا قال : حدثنا ابن قانع علي بن الهيثم ، عن عثمان الفزاري قال : حدثنا مسعود بن جويرية قال : حدثنا عبد الله بن خراش ، عن واسط ، عن الحسن بن ميمون ، عن أبي الجنوب الأسدي قال : جاء رجل من أهل الحيرة إلى كرم الله وجهه فقال : يا أمير المؤمنين رجل من المسلمين قتل ابني ، ولي بينة فجاء الشهود فشهدوا ، وسأل عنهم [ ص: 175 ] فزكوا ، فأمر بالمسلم فأقعد ، وأعطي الحيري سيفا وقال : " أخرجوه معه إلى الجبانة فليقتله , وأمكناه من السيف " ، فتباطأ الحيري ، فقال له بعض أهله : هل لك في الدية تعيش فيها ، وتصنع عندنا يدا ؟ قال : نعم ، وغمد السيف ، وأقبل إلى علي فقال : " لعلهم سبوك وتواعدوك ؟ " قال : لا ، والله ، ولكني اخترت الدية . فقال علي : " أنت أعلم " قال : ثم أقبل علي على القوم فقال : " أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤنا كدمائهم ، ودياتنا كدياتهم " . علي
وحدثنا قال : حدثنا ابن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عمرو بن مرزوق ، عن شعبة عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة : أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من العباديين ، فقدم أخوه على ، فكتب عمر بن الخطاب أن يقتل ، فجعلوا يقولون : يا عمر جبير اقتل فجعل يقول : حتى يأتي الغيظ . فكتب أن لا يقتل ، ويودى . عمر
وروي في غير هذا الحديث أن الكتاب ، ورد بعد أن قتل ، وأنه إنما كتب أن يسأل الصلح على الدية حين كتب إليه أنه من فرسان المسلمين .
وروى قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ابن إدريس ، عن عن ليث الحكم ، عن علي قالا : " إذا قتل يهوديا أو نصرانيا قتل به " . وعبد الله بن مسعود
وروى حميد الطويل عن ميمون عن مهران : أن أمر أن يقتل مسلم بيهودي فقتل . فهؤلاء الثلاثة أعلام الصحابة ، وقد روي عنهم ذلك ، وتابعهم عمر بن عبد العزيز عليه ، ولا نعلم أحدا من نظرائهم خلافه . واحتج مانعو قتل المسلم بالذمي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : عمر بن عبد العزيز رواه لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده قيس بن عباد ، وحارثة بن قدامة ، وأبو جحيفة . وقيل : هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد سوى القرآن ؟ فقال : ما عهدي إلا كتاب في قراب سيفي ، وفيه : لعلي . المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده
وحديث عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح عمرو بن شعيب مكة : ، وقد روى لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده أيضا ما حدثنا ابن عمر قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع إدريس بن عبد الكريم الحدار قال : حدثنا محمد بن الصباح : حدثنا سليمان بن الحكم : حدثنا القاسم بن الوليد ، عن سنان بن الحارث ، عن عن طلحة بن مصرف ، عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمر . لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده
ولهذا الخبر ضروب من التأويل كلها توافق ما قدمنا ذكره من الآي والسنن أحدها : أنه قد ذكر أن ذلك كان في خطبته يوم فتح مكة ، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية [ ص: 176 ] فقال صلى الله عليه وسلم : ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده يعني والله أعلم بالكافر الذي قتله في الجاهلية ، وكان ذلك تفسيرا لقوله : ؛ لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث . وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي مكة ، وأنه إنما كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه .
وكان قوله يوم فتح مكة منصرفا إلى الكفار المعاهدين ؛ إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه ، ويدل عليه قوله : لا يقتل مؤمن بكافر كما قال تعالى : ولا ذو عهد في عهده فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وقال : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وكان المشركون حينئذ ضربين :
أحدهما : أهل الحرب ، ومن لا عهد بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم والآخر : أهل عهد إلى مدة ، ولم يكن هناك أهل ذمة ، فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين ، ولم يدخل فيه من لم يكن على أحد هذين الوصفين .
وفي فحوى هذا الخبر ومضمونه ما يدل على أن الحكم المذكور في نفي القصاص مقصور على الحربي المعاهد دون الذمي ، وذلك أنه عطف عليه قوله : ، ومعلوم أن قوله : ولا ذو عهد في عهده غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد عما قبله ، فهو إذا مفتقر إلى ضمير ، وضميره ما تقدم ذكره ، ومعلوم أن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد المستأمن هو الحربي ، فثبت أن مراده مقصور على الحربي . وغير جائز أن يجعل الضمير ولا ذو عهد في عهده من وجهين : ولا يقتل ذو عهد في عهده
أحدهما : أنه لما كان القتل المبدو قتلا على وجه القصاص ، وكان ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرا في الثاني ، لم يجز لنا إثبات الضمير قتلا مطلقا ، إذا لم يتقدم في الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد بصفة ، وهو القتل على وجه القود ، فوجب أن يكون هو المنفي بقوله : " ولا ذو عهد في عهده " فصار تقديره : ولا يقتل مؤمن بكافر ، ولا يقتل ذو عهد في عهده بالكافر المذكور بديا . ولو أضمرنا قتلا مطلقا كنا مثبتين لضمير لم يجر له ذكر في الخطاب ، وهذا لا يجوز .
وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي ، كان قوله : بمنزلة قوله : لا يقتل مؤمن بكافر حربي ، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي قتل المؤمن بالذمي . لا يقتل مؤمن بكافر
والوجه الآخر : أنه معلوم أن ذكر العهد يحظر قتله ما دام في عهده ، فلو حملنا قوله : " ولا ذو عهد في عهده " على أنه لا يقتل ذو عهد في عهده ، لأخلينا اللفظ من الفائدة ، [ ص: 177 ] وحكم كلام النبي صلى الله عليه وسلم حمله على مقتضاه في الفائدة ، وغير جائز إلغاؤه ، ولا إسقاط حكمه .
فإن قال قائل : قد روي في حديث أبي جحيفة عن عن النبي صلى الله عليه وسلم : علي ولم يذكر العهد ، وهذا اللفظ ينفي قتل المؤمن بسائر الكفار . قيل : هو حديث واحد قد عزاه لا يقتل مؤمن بكافر أيضا إلى الصحيفة . أبو جحيفة
وكذلك قيس بن عباد ، وإنما حذف بعض الرواة ذكر العهد ، فأما أصل الحديث فواحد . ومع ذلك فلو لم يكن في الخبر دليل على أنه حديث واحد لكان الواجب حملهما على أنهما وردا معا ؛ وذلك لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في وقتين مرة مطلقا من غير ذكر ذي العهد ، وتارة مع ذكر ذي العهد . وأيضا فقد وافقنا على أن الشافعي لم يسقط عنه القود ، فلو كان الإسلام مانعا من القصاص ابتداء لمنعه إذا طرئ بعد وجوبه قبل استيفائه ، ألا ترى أنه لما لم يجب ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم كان ذلك حكمه إذا ورث ابنه القود من غيره ؟ فمنع ما عرض من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه . القصاص للابن على الأب إذا قتله
وكذلك لو ، قتل مرتدا لم يجب القود سقط القود ، فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء . فلو لم يجب القتل بديا لما وجب إذا أسلم بعد القتل . وأيضا لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراد الله تعالى من بقاء حياة الناس بقوله : ولو جرحه ، وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة ولكم في القصاص حياة وكان هذا المعنى موجودا في الذمي ؛ لأن الله تعالى قد أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة وجب أن يكون ذلك موجبا للقصاص بينه وبين المسلم كما يوجبه في قتل بعضهم بعضا .
فإن قيل : يلزمك على هذا قتل المسلم بالحربي المستأمن ؛ لأنه محظور الدم ؟ قيل له : ليس كذلك ، بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة ، ألا ترى أنا لا نتركه في دار الإسلام ، ونلحقه بمأمنه والتأجيل لا يزيل عنه حكم الإباحة كالثمن المؤجل لا يخرجه التأجيل عن وجوبه ؟
واحتج أيضا من منع القصاص بقوله صلى الله عليه وسلم : قالوا : وهذا يمنع كون دم الكافر مكافئا لدم المسلم . وهذا لا دلالة فيه على ما قالوا ؛ لأن قوله المسلمون تتكافأ دماؤهم لا ينفي مكافأة دماء غير المسلمين ، وفائدته ظاهرة ، وهي إيجاب المسلمون تتكافأ دماؤهم فهذه كلها فوائد هذا الخبر وأحكامه . التكافؤ بين الحر والعبد والشريف والوضيع والصحيح والسقيم
ومن فوائده أيضا إيجاب القود بين الرجل والمرأة ، وتكافؤ دمائهما ، ونفي لأخذ شيء من أولياء المرأة إذا قتلوا القاتل أو إعطاء نصف الدية من مال المرأة مع قتلها إذا كانت هي القاتلة . فإذا كان قوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 178 ] قد أفاد هذه المعاني ، فهو حكم مقصور على المذكور ، ولا دلالة فيه على نفي التكافؤ بينهم وبين غيرهم من المسلمون تتكافأ دماؤهم أهل الذمة .
ويدل على ذلك أنه لم يمنع حتى يقاد من بعضهم البعض إذا كانوا ذمة لنا ، فكذلك لا يمنع تكافؤ دماء المسلمين تكافؤ دماء الكفار وأهل الذمة . ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه ، فوجب أن يقاد منه ؛ لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله ، ألا ترى أن . العبد لا يقطع في مال مولاه ، ويقتل به
واحتج بأنه لا خلاف أنه لا يقتل بالحربي المستأمن كذلك لا يقتل بالذمي ، وهما في تحريم القتل سواء . وقد بينا وجوه الفرق بينهما . والذي ذكره الشافعي من الإجماع ليس كما ظن ؛ لأن الشافعي قد روى عن بشر بن الوليد : أن أبي يوسف . المسلم يقتل بالحربي المستأمن
وأما قول مالك في قتل الغيلة ، فإنهما يريان ذلك حدا لا قودا ، والآيات التي فيها ذكر القتل لم تفرق بين قتل الغيلة وغيره . وكذلك السنن التي ذكرنا ، وعمومها يوجب القتل على وجه القصاص لا على وجه الحد ، فمن خرج عنها بغير دلالة كان محجوجا ، والله أعلم . والليث