قال : " ابن القاسم كانت دية اليد في ماله ، ولا تحملها العاقلة " . وقال ، ولو قطع يمين رجل ، ولا يمين له : " هو في مال الجاني فإن لم يبلغ ذلك ماله حمل على عاقلته ، وكذلك الأوزاعي فديته في مالها خاصة ، فإن لم يبلغ ذلك مالها حمل على عاقلتها " قال إذا قتلت المرأة زوجها متعمدة ، ولها منه أولاد : دلالة الآية ظاهرة على أن أبو بكر يوجب الدية في مال الجاني ؛ لأنه تعالى قال : الصلح عن دم العمد ، وسقوط القود بعفو بعض الأولياء فمن عفي له من أخيه شيء وهو يعني القاتل إذا كان المعنى عفو بعض الأولياء ، ثم قال : فاتباع بالمعروف يعني اتباع الولي للقاتل ، ثم قال : وأداء إليه بإحسان يعني أداء القاتل ، [ ص: 196 ] فاقتضى ذلك وجوبه في مال القاتل . وكذلك تأويل من تأوله على التراضي عن الصلح على مال ففيه وجوب الأداء على القاتل دون غيره ، إذ ليس للعاقلة ذكر في الآية ، وإنما فيها ذكر الولي والقاتل .
وروى عن أبيه عن ابن أبي الزناد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا . ابن عباس
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي أحمد بن الفضل الخطيب قال : حدثنا إسماعيل بن موسى قال : حدثنا عن شريك جابر بن عامر قال : " اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عبدا ولا عمدا ولا صلحا ولا اعترافا " .
وروى عن أبيه عن جده في قصة عمرو بن شعيب قتادة بن عبد الله المدلجي الذي قتل ابنه : " أن جعل عليه مائة من الإبل ، وأعطاها إخوته ، ولم يورثه منها شيئا " فجعل ذلك في ماله لما كان عمدا ، ولما ثبت ذلك في النفس ، ولم يخالف عمر فيه غيره من الصحابة كان كذلك حكم ما دونها إذا سقط القصاص . ، وروى عمر عن أبيه قال : " ليس على العاقلة عقل في عمد وإنما عليهم الخطأ " وقال هشام بن عروة أيضا : " ما كان من صلح فلا تعقله العشيرة إلا أن تشاء " . عروة
وقال : " كل شيء لا يقاد منه فهو في مال الجاني " . وقال قتادة عن أبو حنيفة عن حماد إبراهيم : " لا تعقل العاقلة صلحا ولا عمدا ولا اعترافا " .
قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب فيه إخبار من الله تعالى في إيجاب القصاص حياة للناس وسببا لبقائهم ؛ لأن من قصد قتل إنسان رده عن ذلك علمه بأنه يقتل به . ودل على وجوب القصاص عموما بين الحر والعبد والرجل والمرأة والمسلم والذمي ؛ إذ كان الله تعالى مريدا لتبقية الجميع ، فالعلة الموجبة للقصاص بين الحرين المسلمين موجودة في هؤلاء ، فوجب استواء الحكم في جميعهم .
وتخصيصه لأولي الألباب بالمخاطبة غير ناف مساواة غيرهم لهم في الحكم ؛ إذ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوي الألباب موجودا في غيرهم ، وإنما وجه تخصيصه لهم أن ذوي الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطبون به ، وينتهون إلى ما يؤمرون به ، ويزدجرون عما يزجرون عنه . وهذا كقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها هو منذر لجميع المكلفين ، ألا ترى إلى قوله تعالى : إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ونحو قوله : هدى للمتقين وهو هدى للجميع ، وخص المتقين لانتفاعهم به ، ألا ترى إلى قوله في آية أخرى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ؟ فعم الجميع به . وكقوله : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا لأن التقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله . وقد ذكر عن [ ص: 197 ] بعض الحكماء أنه قال : " قتل البعض إحياء الجميع " .
وعن غيره : " القتل أقل للقتل " و " أكثروا القتل ليقل القتل " وهو كلام سائر على ألسنة العقلاء ، وأهل المعرفة ، وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة ثم إذا مثلت بينه وبينه وجدت بينهما تفاوتا بعيدا من جهة البلاغة ، وصحة المعنى .
وذلك يظهر عند التأمل من وجوه :
أحدها : أن قوله تعالى : في القصاص حياة هو نظير قولهم : " قتل البعض إحياء للجميع . والقتل أقل للقتل " وهو مع قلة عدد حروفه ونقصانها عما حكي عن الحكماء قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه ، ولا يستغني عنه الكلام ما ليس في قولهم ؛ لأنه ذكر القتل على وجه العدل لذكره القصاص ، وانتظم مع ذلك الغرض الذي إليه أجري بإيجابه القصاص ، وهو الحياة .
وقولهم : " القتل أقل للقتل " " وقتل البعض إحياء الجميع " و " القتل أنفى للقتل " إن حمل على حقيقته لم يصح معناه ؛ لأنه ليس كل قتل هذه صفته ، بل ما كان منه على وجه الظلم والفساد ، فليست هذه منزلته ، ولا حكمه .
فحقيقة هذا الكلام غير مستعملة ، ومجازه يحتاج إلى قرينة وبيان في أن أي قتل هو إحياء للجميع . فهذا كلام ناقص البيان مختل المعنى غير مكتف بنفسه في إفادة حكمه ، وما ذكره الله تعالى من قوله : ولكم في القصاص حياة مكتف بنفسه مفيد لحكمه على حقيقته من مقتضى لفظه مع قلة حروفه ، ألا ترى أن قوله تعالى : في القصاص حياة أقل حروفا من قولهم : " قتل البعض إحياء للجميع " و " القتل أقل للقتل ، وأنفى للقتل " ؟
ومن جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله : في القصاص حياة على قولهم : " القتل أقل للقتل ، وأنفى للقتل " أن في قولهم تكرار اللفظ ، وتكرار المعنى بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة ، أنه يصح تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد ، ولا يصح مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى : وغرابيب سود ونحو قول الشاعر :
وألفى قولها كذبا ومينا
كرر المعنى الواحد بلفظين ، وكان ذلك سائغا ، ولا يصح مثله في تكرار اللفظ . وكذلك قوله : ولكم في القصاص حياة لا تكرار فيه مع إفادته للقتل من جهة القاتل ، إذ كان ذكر القصاص يفيد ذلك ، ألا ترى أنه لا يكون قصاصا إلا وقد تقدمه قتل من المقتص منه ؟ وفي قولهم ذكر للقتل وتكرار له في اللفظ ، وذلك نقصان في البلاغة ، فهذا وأشباهه مما يظهر به للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر ؛ إذ ليس يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل ما يوجد في كلام الله تعالى .[ ص: 198 ]