باب . تبديل الوصية
قال الله سبحانه وتعالى : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه قيل : إن الهاء التي في قوله : " فمن بدله " عائدة على الوصية ، وجائز فيها التذكير ؛ لأن الوصية ، والإيصاء واحد . وأما الهاء في قوله : " إثمه " فإنما هي عائدة على التبديل المدلول عليه بقوله : " فمن بدله " . وقوله : فمن بدله بعدما سمعه يحتمل أن يريد به الشاهد على الوصية ، فيكون معناه زجره عن التبديل ، على نحو قوله تعالى : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويحتمل أن يريد الوصي ؛ لأنه هو المتولي لإمضائها ، والمالك لتنفيذها ، فمن أجل ذلك قد أمكنه تغييرها .
ويبعد أن يكون ذلك عموما في سائر الناس ؛ إذ لا مدخل لهم في ذلك ، ولا تصرف لهم فيه ، [ ص: 210 ] وهو عندنا على المعنيين الأولين من الشاهد والوصي لاحتمال اللفظ لهما ، والشاهد إذا احتيج إليه مأمور بأداء ما سمع على وجهه من غير تغيير ولا تبديل ، والوصي مأمور بتنفيذها على حسب ما سمعه مما تجوز الوصية به . وروي عن عطاء قالا : " هي الوصية تصيب الولي الشاهد " . ، وقال ومجاهد : " هي الوصية من سمع الوصية ثم بدلها بعدما سمعها فإنما إثمها على من بدلها " . الحسن
قال : وجائز أن يكون الحاكم مرادا بذلك لأن له فيه ولاية وتصرفا إذا رفع إليه ، فيكون مأمورا بإمضائها إذا جازت في الحكم منهيا عن تبديلها ، وفيها الأمر بإمضائها وتنفيذها على الحق والصدق . وقوله : أبو بكر فمن بدله بعدما سمعه قد اقتضى جواز تنفيذ الوصي ما سمعه من وصية الموصي ، كان عليها شهود أو لم تكن .
وهو أصل في كل من سمع شيئا فجائز إمضاؤه عند الإمكان على مقتضاه وموجبه من غير حكم حاكم ، ولا شهادة شهود فقد دل على أن فجائز له أن يقضيه من غير علم وارث ولا حاكم ولا غيره لأن في تركه ذلك بعد السماع تبديلا لوصية الموصي . الميت متى أقر بدين لرجل بعينه عند الوصية
وقوله : فإنما إثمه على الذين يبدلونه قد حوى معاني :
أحدها : أنه معلوم أن ذلك عطف على الوصية المفروضة كانت للوالدين والأقربين ، وهي لا محالة مضمرة فيه ، لولا ذلك لم يستقم الكلام لأن قوله : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لما انتظم من الكناية والضمير اللذين لا بد لهما من مظهر مذكور ، وليس في الآية مظهر غير ما تقدم ذكره في أولها ، وإذا كان كذلك فقد أفادت الآية سقوط الفرض عن الموصي بنفس الوصية ، وأنه لا يلحقه بعد ذلك من مأثم التبديل شيء بعد موته .
وفيه دلالة على بطلان قول من أجاز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم ، وهو نظير قوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقد دلت الآية أيضا على أن أنه قد برئ من تبعته في الآخرة ، وأن ترك الورثة قضاءه بعد موته لا يلحقه تبعة ولا إثم ، وأن إثمه على من بدله دون من أوصى به . وفيه الدلالة على أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه أنه قد صار مفرطا مانعا مستحقا لحكم مانعي الزكاة ؛ لأنها لو كانت قد تحولت في المال حسب تحول الديون لكان بمنزلة من أوصى بها عند الموت فينجو من مأثمها ، ويكون حينئذ المبدل لها مستحقا لمأثمها . من كان عليه زكاة ماله فمات ولم يوص به
وكذلك حكى الله تعالى عن مانع الزكاة عند الموت سؤال الرجعة في قوله : [ ص: 211 ] وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين فأخبر بحصول التفريط وفوات الأداء ، إذ لو كان الأداء باقيا على الوارث أو الوصي من ميراث الميت لكانوا هم المستحقين للوم والتعنيف في تركه وكان الميت خارجا عن حكم التفريط ، فدل ذلك على صحة ما وصفنا من امتناع وجوب أداء زكاته من ميراثه من غير وصية منه به .
فإن قيل : هل يفترق حكم الموصي عند الله في حال تنفيذ وصيته أو تبديلها ، وهل يكون ما يستحقه من الثواب في الحالين سواء ؟ قيل له : إن وصية الموصي قد تضمنت شيئين :
أحدهما : استحقاقه الثواب على الله بوصيته ، والآخر : أن وصول ذلك إلى الموصى له يستوجب منه الشكر لله والدعاء للموصي ، وذلك لا يكون ثوابا للموصي ولكن جزاء له لا للموصي ، فينتفع الموصي بذلك من وجهين : إذا أنفذت الوصية ، ومتى لم تنفذ كان نفعه مقصورا على الثواب الذي استحقه بوصيته دون غيرها . الموصي يصل إليه من دعاء الموصى له وشكره لله تعالى
فإن قيل : هل يبرأ الميت من تبعته ؟ قيل له : امتناعه من قضاء الدين قد تضمن شيئين . فمن كان عليه دين فلم يوص بقضائه وقضاه الورثة
أحدهما : حق الله تعالى ، والآخر : حق الآدمي ؛ فإذا استوفى الآدمي حقه فقد برئ من تبعته وبقي من حق الآدمي ما أدخل عليه من الظلم والضرر بتأخيره ، فإذا لم يتب منه كان مؤاخذا به في الآخرة وبقي حق الله ، وهو الظلم الواقع منه في حياته لم تكن توبة منه فيه ، فهو مؤاخذ به فيما بينه وبين الله تعالى ؛ ألا ترى أن كان مكتسبا بذلك المأثم من وجهين : من غصب من رجل مالا ، وأصر على منعه
أحدهما : حق الله بارتكاب نهيه ، والآخر : حق الآدمي بظلمه له وإضراره به ؟ فلو أن الآدمي لكان قد برئ من حقه وبقي حق الله يحتاج إلى التوبة منه ، فإذا مات غير تائب كانت تبعته باقية عليه لاحقة به وقوله تعالى : أخذ حقه منه من غير إرادة الغاصب لذلك فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إنما هو فيمن بدل ذلك إذا وقع على وجه الصحة والجواز والعدل ، فأما فالواجب تبديلها وردها إلى العدل ، قال الله تعالى : إذا كانت الوصية جورا غير مضار وصية من الله فإنما تنفذ الوصية إذا وقعت عادلة غير جائرة .
وقد بين الله تعالى ذلك في الآية التي تليها .