ولما انقضى كشف هذه الأخبار، العلية المقدار، الجليلة الأسرار، شرع سبحانه ينسب أهلها بأشرف نسبهم، ويذكر أمتن سببهم هزا [ ص: 220 ] لمن وافقهم في النسب إلى الموافقة في السبب فقال: أولئك أي العالو الرتب، الشرفاء النسب الذين أنعم الله بما له من صفات الكمال التي بها أقام آدم عليه السلام وهم في ظهره، مع ما طبعه عليه من الأمور المتضادة حتى نجاه من مكر إبليس، ونجى بها نوحا عليه السلام وهم في صلبه من ذلك الكرب العظيم، وإبراهيم عليه السلام وهم في قواه مع اضطرام النار وإطفاء السن وإصلاد العظم، وأعلى بها إسرائيل عليه السلام وبنيه في سوط الفراق وامتهان العبودية وانتهاك الاتهام حتى كان أبناؤه معدن الملوك والأنبياء، ومحل الأتقياء والأصفياء، إلى غير ذلك من جليل الأنبياء وعظيم الاصطفاء والاجتباء عليهم بما خصهم به من مزيد القرب إليه، وعظيم المنزلة لديه; وبين الموصول بقوله: من النبيين أي المصطفين للنبوة الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم، ورفع محالهم بين الأمم، وأنبؤوا الناس بجلائل الكلم، وأمروهم بطاهر الشيم.
ولما كانوا بعض بني آدم الذين تقدم أنا كرمناهم، قال إشارة إلى ما في ذلك من النعمة عليهم وهم يرونها: من ذرية آدم صفينا أبي البشر الذي خلقه الله من التراب بيده، وأسجد له ملائكته، وإدريس أحقهم بذلك.
ولما كان في إنجاء نوح عليه السلام وإغراق قومه من القدرة الباهرة ما لا يخفى، نبه عليه بنون العظمة في قوله مشيرا إلى أعظم النعمة عليهم [ ص: 221 ] بالتبعيض، وإلى أن نبيهم من ذريته كما كان هو من ذرية إدريس عليه السلام الذي هو من ذرية آدم، فكما كان كل منهم رسولا فكذلك هو وإبراهيم أقربهم إلى ذلك: وممن حملنا مع نوح صفينا أول رسول أرسلناه بعد افتراق أهل الأرض وإشراكهم، من خلص العباد، وأهل الرشاد، وجعلناه شكورا، وإبراهيم أقربهم إلى ذلك ومن ذرية إبراهيم خليلنا الذي كان له في إعدام الأنداد ما اشتهر به من فضله بين العباد، وإسماعيل وإسحاق أولاهم بذلك، ثم يعقوب وإسرائيل صفينا، وهم الباقون: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم بنت داود - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام [فكما كان هؤلاء رسلا وهم من ذرية إبراهيم الذي هو من ذرية نوح فكذا نبيكم الذي هو من ذرية إسماعيل الذي هو من إبراهيم لصلبه وهو أول أولاده كما كان إسرائيل من ذريته، فالإرسال من ذرية من هو ابنه لصلبه أولى من الإرسال من ذرية من بينه وبينه واسطة، وإلا كان بنو إسرائيل أشرف منكم وأبوهم أشرف من أبيكم، فلا تردوا الكرامة، يا من يتنافسون في المفاخرة والزعامة -] وممن هدينا إلى أقوم الطرق واجتبينا أي فعلنا بهم فعل من يتخير الشيء وينتقيه بأن أسبغنا عليهم من النعم ما يجل عن الوصف; وعطف الأوصاف بالواو إشارة إلى التمكن فيها.
[ ص: 222 ] ولما ذكر ما حباهم به، ذكر ما تسبب عن ذلك فقال [مستأنفا -] إذا تتلى عليهم آيات الرحمن العام النعمة، فكيف بهم إذا أعلاهم [جلال أو خصتهم رحمة -] من جلائل النعم، من فيض الجود والكرم، [فسمعوا خصوص هذا القرآن -] خروا سجدا للمنعم عليهم تقربا إليه، لما لهم من البصائر المنيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم وبكيا خوفا منه وشوقا إليه، فوصفهم بسرعة الخشوع من ذكر الله الناشئ عن دوام الخضوع والناشئ عنه الإسراع بالسجود في حالة البكاء، وجعلهما حالتين بالعطف بالواو لعراقة المتحلي بهما في كل منهما على انفراده، وعبر بالاسم في كل من السجود والبكاء، إشارة إلى أن خوفهم دائم كما أن خضوعهم دائم لعظمة الكبير الجليل، لأن تلك الحضرة لا تغيب عنهم أصلا، وإن حصل غير البكاء فللتأنيس لمن أرسلوا إليه ليوصلوه إلى قريب من رتبتهم بحسن عشرتهم على تفاوت المراتب، وتباين المطالب، وحذف ذكر الأذقان لدلالتها [ ص: 223 ] - كما تقدم في سبحان - على نوع دهشة، فهي - وإن أعلت صاحبها عمن لم يبلغها - حالة دون مقام الراسخين في حضرة الجلال، لأنهم - مع كونهم في الذروة من مقام الخوف - في أعلى درجات الكمال من حضور الفكر وانشراح الصدر - لتلقي واردات الحق وإلقائها إلى الخلق، انظر إلى ثبات رضي الله عنه - لعلو مقامه عن غيره - عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أوفاهم من المحبة مشربا، وأصفاهم موردا، وأوفرهم حزنا، وأكثرهم غما وهما، حتى أنه اعتراه لذلك مرض السل حتى مات به وجدا وأسفا [ومن هنا تعلم السر في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الأنبجانية التي ألهت في الصلاة بأعلامها إلى الصديق أبي جهم لأنه رضي الله عنه ربما كان من أهل الجمع في الصلاة فلا يرى غيره سبحانه فناء عن كل فان بخلاف النبي فإنه لكماله متمكن في كل من مقامي الجمع والفرق في كل حالة ولهذا يرى من خلفه في الصلاة ولا يخفى عليه خشوعهم -].