ولما ظهر بهذا كالشمس أن من والاه سبحانه كان فائزا، ومن عاداه كان خاسرا، كانت نتيجته قطعا التحذير من موالاة أعداء الله في سياق النفي المفيد للمبالغة في النهي عنه والزجر عن قربانه فقال: لا تجد أي بعد هذا البيان قوما أي ناسا لهم قوة على ما يريدون محاولته يؤمنون أي يجددون الإيمان ويديمونه بالله أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى واليوم الآخر الذي هو موضع الجزاء لكل عامل [بكل ما] عمل، الذي هو محط الحكمة يوادون [ ص: 397 ] أي يحصل منهم ود [لا] ظاهرا ولا باطنا - بما أشار إليه الإدغام وأقله الموافقة في المظاهرة من حاد الله أي عادى بالمناصبة في الحدود الملك الأعلى لذلك فالمحادة لا تخفى وإن كانت باطنة يستتر بها صاحبها، لأن الظاهر عنوان الباطن، والأفعال دليل [على] الأقوال ، وهذا حامل على زيادة النفرة منهم ورسوله فإن من حاده فقد حاد الذي أرسله، بل لا تجدهم إلا يحادونهم، لا أنهم يوادونهم، وزاد ذلك تأكيدا بقوله: ولو كانوا آباءهم الذين وذلك كما فعل أوجب الله على الأبناء طاعتهم بالمعروف، رضي الله عنه، قتل أباه أبو عبيدة عامر بن الجراح عبد الله بن الجراح يوم أحد أو أبناءهم الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم كما فعل رضي الله عنه فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة، وقال: أبو بكر دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعنا بنفسك يا أما تعلم أنك بمنزلة سمعي وبصري أبا بكر، أو إخوانهم [الذين] هم أعضادهم [ ص: 398 ] كما فعل رضي الله عنه، قتل أخاه مصعب بن عمير يوم أحد وخرق عبيد بن عمير رضي الله عنه الصفوف يومئذ على أخيه سعد بن أبي وقاص عتبة بن أبي وقاص غير مرة ليقتله فراغ عنه روغان الثعلب، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريد أن تقتل نفسك وقتل رضي الله عنه أخاه من الرضاع [محمد] بن مسلمة الأنصاري كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير أو عشيرتهم الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما فعل رضي الله عنه، قتل خاله عمر العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي وحمزة رضي الله عنهم قتلوا يوم بدر بني عمهم وعبيدة بن الحارث عتبة وشيبة ابني ربيعة وعن والوليد بن عتبة، أن السلف كانوا يرون أن الآية نزلت فيمن يصحب السلطان - انتهى. ومدار ذلك على أن الثوري الإنسان يقطع رجاءه من غير الله، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصا في إيمانه.
ولما كان لا يحمل على البراءة ممن هذا شأنه إلا صريح الإيمان، أنتج قوله: أولئك أي الأعظمون شأنا الأعلون همما كتب [ ص: 399 ] أي وصل وأثبت وصلا وهو في لحمته كالخرز في الأديم، وكالطراز في الثوب الرقيم، فلا انفكاك له في قلوبهم الإيمان فجعلها أوعية له فأثمر ذلك نور الباطن واستقامة الأعمال في الظاهر وأيدهم أي قواهم وشددهم وأعانهم وشجعهم وعظمهم وشرفهم بروح أي نور شريف جدا يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من كنوز العلم والعمل فهو لقلوبهم كالروح للأبدان، فلا يفعلون شيئا من أحوال [أهل] الجاهلية كالمظاهرة، وزاد هذا التأييد شرفا بقوله: منه أي أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهرا وباطنا، فقهروا بالدلائل والحجج، وظهروا بالسيف المفني للمهج، وعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسرج، فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه أو داهن مبتدعا في عقده نزع الله نور التوحيد من قلبه.
ولما أخبر بما آتاهم في الدنيا وهو غير مفارق لهم في الآخرة، أخبر بما يؤتيهم في الآخرة فقال: ويدخلهم جنات أي بساتين [ ص: 400 ] يستر داخلها من كثرة أشجارها، وأخبر عن ريها بقوله: [ تجري ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر، أثبت الجار فقال]: من تحتها الأنهار أي فهي لذلك كثيرة الرياض والأشجار والساحات والديار. ولما كان ذلك لا يلذ إلا بالدوام قال: خالدين فيها
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضا مالكها قال: رضي الله أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله فلا التفات إلى غيره عنهم ولما كان ذلك لا يكمل سروره إلا برضاهم ليتم حسن المجاورة قال: ورضوا عنه أي لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون. ولما أخبر عنهم بما يسر كل سامع فيشتاق إلى مصاحبتهم ومعاشرتهم ومرافقتهم ومقاربتهم مدحهم وعرفهم بقوله: أولئك أي الذين هم في الدرجة العليا من العظمة لكونهم قصروا ودهم على الله علما منهم بأنه ليس النفع [والضر] إلا بيده حزب الله أي جند الملك الأعلى الذي [أحاط] بجميع صفات الكمال وأولياؤه، فإنهم هم يغضبون له ولا يخافون فيه لومة لائم. ولما تبين مما أعد لهم وأعد لأضدادهم أنهم المختصون بكل خير، قال على طريق الإنتاج مما مضى مؤكدا لما لأضدادهم من الأنكاد: ألا إن حزب الله أي جند الملك الأعلى وهم هؤلاء الموصوفون ومن [ ص: 401 ] والاهم هم أي خاصة لا غيرهم المفلحون أي الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضى من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأبيد، خصهم بذلك لأن له العزة والقوة والعلم والحكمة، فلذلك علم أمر المجادلة ورحم شكواها لأنها من حزبه وسمع لها، ومن سمع له فهو مرضي عنه، وحرم الظهار بسبب شكواها إكراما لها بحكمته لأنه منابذ للحكمة لأنه تشبيه خارج عن قاعدة التشبيهات، وفيه امتهان للأم التي لها في دينه غاية الإكرام بالتسوية بالزوجة التي هي محل الافتراش، وختم آيها بأن من تعدى حدوده فعاود أحوال الجاهلية فهو مجادله سبحانه فهو من حزب الشيطان، فقد عاد آخرها إلى أولها بأدل دليل على أحسن سبيل، لأن هذا القرآن العظيم أشرف حديث وأقوم قيل وهذا مقصود التي بعدها، ولا شك أنه موجب للتنزيه مبعد عن التشريك والتشبيه، فسبحان من أنزله آية دائمة البيان، موجبة للإيمان، قامعة للطغيان، على مدى الدهور وتطاول الأزمان.